Search from the Journals, Articles, and Headings
Advanced Search (Beta)
Home > Al-Idah > Volume 33 Issue 2 of Al-Idah

استشهاد ابن زيدون بأشعار المتنبى في رسالته الجدية التي كتبها في غياهب السجن |
Al-Idah
Al-Idah

Article Info
Authors

Volume

33

Issue

2

Year

2016

ARI Id

1682060034497_408

Pages

284-295

PDF URL

http://www.al-idah.pk/index.php/al-idah/article/download/105/98

Chapter URL

http://al-idah.szic.pk/index.php/al-idah/article/view/105

Asian Research Index Whatsapp Chanel
Asian Research Index Whatsapp Chanel

Join our Whatsapp Channel to get regular updates.

تعريف الاستشهاد

الاستشهاد مصدر على وزن استفعال من استشهد يستشهد استشهاداً، استشهدتُ فلاناً على فلانٍ: سألته إقامة شهادةٍ احتملها [1]. ومنه قوله تعالى " واستَشْهِدُوا شَهِيْدَينِ مِن رِّجَالِكُم"[2] أي اشهدوا شاهدين.

قال أبو هلال العسكري[3] عن الاستشهاد " هذا الجنس كثير في كلام القدماء والمحدثين وهو أحسن ما يتعاطى من أجناس صنعة الشعر، ومجراه مجرى التدليل لتوليد المعنى، وهو أن يأتي بمعنى ثم تؤكد بمعنى آخر يجري مجرى الاستشهاد على الأول، الحجة على صحّته[4].

الاستشهاد بالشعر

الاستشهاد بالشعر هو أن يورد البيت من الشعر أو البيتين أو أكثر في خلال الكلام المنثور مطابقاً لمعنى ما تقدم من النثر، ولا يشترط فيه أن ينبه عليه بقول ونحوه، كما يشترط في الاستشهاد بآيات القرآن الكريم والأحاديث النبويّة، فإن الشعر يتميز بوزنه وصيغته عن غيره من أنواع الكلام، فلا يحتاج إلى التنبيه عليه، وأكثر ما يكون ذلك في المكاتبات الإخوانيات[5].

أهمية الاستشهاد

أنّ للاستشهاد أهمية كبيرة، لا من ناحية التفسير واللغة والنحو والصرف، بل تظهر بطريق شتى كالمعاجم اللغوية أو المعنوية أو التأصليّة أو غير ذلك من أنواع المعاجم والقواميس الّتي ألفت في شواهد اللغة وجمعت فيها أشعار كثيرة من أنواع كتب الأدب أو أخذت الألفاظ من الأعراب بالدلائل والبراهين كما فعل ذلك خليل بن أحمد الفراهيدي في معجمه كتاب العين وعبد الملك بن قريب الأصمعي في معاجمه الموضوعيّة وابن فارس والجوهري وابن دريد في قواميسهم وذهب ابن منظور ومرتضى الزبيدى على أثارهم في طريقة الاستشهاد بالشعر.

أنّ للاستشهاد لم يكن الأهميّة في عصر القديم بل ازداد مع مرور الوقت لإفادة إلى طلاب الأدب والعلوم في العصر الحديث وذلك أنّ باحثين في مرحلة الدكتواره في هذه الأيام يختارون لبحوثهم الأشعار الواردة في مختلف الكتب الأدبية والتفاسير واللغة لكي ينظروا ويحققوا، أمّا في هذه الأشعار من الفوائد التي انتقلت من جيل إلى جيل حتى وصلت إليهم. وأقول ازداد أهميّة الاستشهاد في عصر الحاضر حتى أصبح فناً مستقلاً في عصرنا هذا.

تعريف الرِّسالة الجِدِيّة لِابن زيدون

أبو الوليد أحمد بن زيدون الأندلسي اشتغل بالأدب العربي حتّى برع وبلغ في صناعتي النثر والشعر، مدح ابن الحزم بن جهور وابنه الوليد بن الحزم وانقطع إلى آل ابن جهور.

اعتمد أبو الحزم عليه في السفارة بينه وبين ملوك الأندلس فأعجب به القوم وتمنوا ميله إليهم لبراعته وحسن سيرته وتدبيره، واتّفق أنّ أبو الحزم بن جهور نفم عليه أمراً فحبسه.

أوأنَ ابن زيدون كتب إلى ولُاَدة رسالته الهزلية يسخر فيها على لسانها من ابن عبدوس ويتهكم عليه ويعبث به ويهجوه، لكنَ وُلاَدة لم تفعل ذالك بل غضبت عليه وتهجوه ببيتين هجاء فاحشا،ويعظم الخلاف بينهما وتحتدم العداوة بينه وبين منافسه ابن عبدوس، وستكون هذه العداوة الَتى كوَنت سبباً لدخول الشاعر فى السِّجن.

مهما يكن من أمر أرسل ابن زيدون القصائد السِّجنيات من وراء القضبان ورسالة جدِّيّةً إلى أبي الحزم بن جهور مستعطفاً فيها ويطلب الرحم والعفو ويريد بها إطلاق سراحه.

أثر المتنبى على ابن زيدون

[6] نلاحظ خلال متن الرسالة أنَّ لِابن زيدون له صلة قوية بالأدب العربي القديم وبالتراث الماضي، وفي الوقت الذى عاش هذا الشاعر ومع ذلك صلته بالقرآن والحديث والفقه والتاريخ، وجمع في هذه الرسالة ما يقرّبه إلى مقصده من أفكار الشعراء المتقدمين فقد أبان فيها حسن تنسيقه لما أراد أن يذكر فيها من المعاني والأغراض، لكنّه أخذ أثراً بالغاً وعميقاً من أشعار المتنبي، فلذا أورد أشعاره في نص الرسالة لتقويّة المعنى بها ولزيادة الأثر على من يقرأ هذه الرِسالة الجدِّيّة.

استشهد ابن زيدون في رسالته بأشعار المتنبي كما قال ابن زيدون:

"بعد أن نظر الأعمى إلى تأميلي لك، وسمع الاصم ثنائي عليك"[7]، التأميل هو أمرٌ معنويٌ لا يشاهد وإنَّما ذلك مبالغة في شدَّة التلبس والاتصاف به، فصيّر تأميله فيه جسماً مخترعاً ولذا رآه الأعمى، وحلى مدحه بما جذب به إليه الآذان فدخلها بدون استئذان، ولذا سمعه الأصم[8]، ففيه المبالغة العظمى واستشهد ابن زيدون بهذا المعنى شعر المتنبي كما قال:

أنا الَّذى نظر الأعمى إلى أدبيوأسمعت كلماتي من به صممُ

أنام ملءَ جُفُوني عن شواردهاويسهرُ الخلقُ جرَّاها ويختصمُ[9]

ونلاحظ ابن زيدون أنّه جرى أسلوب تحسين القبح وهو أن يعتذر له بشيء يعود قبحه حسناً. كما قال:

" هل أنا إلَّا يدٌ أدماها سِوارها، وجبين عضَّ به إكليله"[10]:

أي ما أنا إلَّا يدٌ أدماها سوارُها الّذى تحلّت وتزينت به، وجبينٌ عضّ به تاجُه الَّذى وضعه فوقه، ليتجمّل به ويتحلّى بجواهره، فما ألُومُ أحداً فعل بي ذلك، فالشاعر هنا ينفي أن يكون سبب محنته غير ذلك، فالمعنى المراد من الاستفهام في متن العبارة النفي، وفي هذه العبارة استعارة مكنية، حيث شبه الإكليل بإنسانٍ وحذف المشبه به الإنسانُ، ورمز له بشيء من لوازمه على سبيل الاستعارة المكنية والقرينة إثبات العض للإكليل. وهذا مأخوذ من قول المتنبي:

بنو كعبٍ وما أثرت فيهميدٌ لم يُدمها إلَّا السِّوارُ

بها مِن قِطعة ألمٌ ونقصٌوفيها من جلالته افتخارُ[11]

أراد المتنبي أن يأتي بعلة طريفة يبرر بها قتل سيف الدولة لقبيله بنو كعب التي يحسن إليها ويبرها، ولكنّها لم تحفظ الجميل حيث عادت فحاربته، فهو لها مثل السوار الذى أدمي اليد ولكن مع ذلك وجوده يضفي عليه جلالاً وجمالاً.

قال ابن قتيبة: سُّوار المرأة وأجود اللغة فيه السِّوار بكسر السِّين.[12]

وفي المثل"لو ذاتُ سوار لطمتني"[13] يضرب هذا المثل إذا اللّئيمُ يظم الكريمَ، وأصله أنَّ امرءةً لطمت رجلاً، فنظر إليها،فإذا هي رثَّة الهيئة عاطل،فقال:لو ذاتُ سوار لطمتني، أي لو كانت ذات غناً وهيئةٍ لكانت بليّتي أخفَّ.[14]

قال عبد الصمد بن منصور البابلي[15]:

لا صبر عنك ولو عضّ السِّوار يدىوبثُّ مرتفعاً في رأس غُمدانا

كلاّ ولو هزّ عرشُ الملك ناصيتيوصرتُ للمنبر الشرقيّ ديّانا[16]

قال ابن زيدون: هذا العتب محمود عواقبه، وهذه النبوة غمرة ثُمَّ تنجلي.[17]

يقول أرجو أن يكون هذا اللوم خاتمة الجفاء فاتحة الألفة والصفاء وان هذه الجفوة شدة وتحول وسحابة لا تلبث أن تزول، ولعل عتبك يكون سبباً لتحقيق وفائيوإخلاصي في خدمتكويقطع عني ألسنة الحساد فأحمد عواقبه، يشير ابن زيدون إلى شعر المتنبي:

يا أيّها المحسنُ الشكور من جهّتي و الشُكر من قبل الإحسان لا قبلي

لعلّ عتبك محمود عواقبهو ربما صحت الأجسام بالعلل[18]

ترجى ابن زيدون بهذه العبارة أن يفرّج الله عنه الكرب والمحنة وعذاب السِّجن وهو يتسلّى نفسه بشعر المتنبي، وهو لا يرى فقط زوال العذاب المؤلم بل كان ينظر في العواقب والتفكير في المصير وإلى عاقبة الأمر وهو يعبّر عنها بأحسن العواقب وبمحمود النتائج من قِبل الأمير ابن جهور.

ونلاحظ هذا الرجاء والأمل في بيت المتنبي لِأنّ في البيت المقتبس منه نجد فيه كلمة " لعلّ" وهي تستعمل أصلاً في الترجي والأمل فاستشهد ابن زيدون بهذا المعنى وأخذ اقتباساً من شعر المتنبي وزيّن به رسالته الجدّية.

أمّا معنى شعر المتنبي هو " لعلّني أتأدب بعد عتبك عليّ، وبعد العفو يكون عتبك عليّ تهذيباً، ويؤدي إلى خاتمة محمودةٍ، كما أنّ بعض العلل يكون أحسن العاقبة لما يؤمن معه من الأمراض".

أمّا صحة الداء بالعلة فهو كالزكام، دافع الأمراض الكثيرة من أدواء الرأس، ويعقبه الصحة. لِأنه يسيل ويذوب المُخاط من الغشاء المُخاطي، وما جمع المخاط على الغِشاء المخاطي لمدّةٍ طويلةٍ إلاّ مضر وسبب لأدواء الرأس.

أنَّ في الشعر تشبيه ضمني، فالمشبه " العواقب المحمودة" الّتي تأتي من جراء العتاب والعقاب، والمشبه به" صحة الأجسام وسلامتها" التي تأتي بعد الاسقام والعلل. فالمشبه به جاء مؤكداً لصحة المشبه ووجه الشبه جاء مضمناً في سياق الحديث وهو وجود شيء مؤلم يعود لصاحبه بالخير والصحّة.

و في مثل هذا المعنى قال الشاعر هدبة بن خشرم[19] في السِّجن:

عسى الكرب الّذى أمسيتُ فيهيكون وراءُه فرجٌ قريب

فيأمن خائف ويفك عانٍو يأتي أهله الرجل الغريب[20]

نجد هنا أيضاً كلمة الترجي والتفاؤل وهي " عسى"، وهذا من أساليب البلاغية من الإنشاء الطلبي، لِأنّ الفرج وزوال الحزن أمرٌ مترقبٌ مطموع فيه.

لكنّ ابن زيدون ما فاز في مقصده وما أُطلق سراحه وخاب في أمله لكنّه هو رجلٌ ذا همّةٍ عاليّة فما انقطع خيط الأمل والرجاء من السلطان ابن جهور وأرسل بعد الرسالة القصائد السِّجنيات قصيدة بعد قصيدة.

و أحسن ما قال أميّة بن أبي الصلت[21]:

تجري الأمور على حكم القضاء وفي طيِّ الحوادث محبوبٌ ومكروهٌ

فرُّبما سرّني ما بتُّ أحذرهو ربّما ساءني ما بتُّ أرجوه[22]

أنَّ الكلام من حسن العاقبة بعد الشِّدة والتكاليف نجد هذا المعنى في الشعر العربي أكثراً، مثل ما نقل ابن زيدون عن المتنبي بعبارة " محمود العاقبة" فنجد في شعر أحمد بن محمد ابن الخيّاط[23]، يقول:

هبوا طيفكم أعدى على النَّأي مسراهفمن لمشوق أن يهوِّم جفناه

يرى الصبر محمود العواقب معشرٌوما كل صبرٍ يحمد المرء عقباه[24]

و في مثل هذا المعنى قال المشد[25]:

و عاقبة الصبر محمودةلمن يتداوي به في الهوى[26]

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال"لو كان العسر في جحر لدخل عليه اليسر حتى يخرجه".[27]

قال ابن زيدون " ولن يريبني من سيّدي أن أبطأسيبُه فأبطأ الدِّلاءِ فيضاً أملؤها"[28]

البُطءُ هو ضد السرعة، أملؤها أي ملأُ الشيء. أنّ ابن زيدون ذكر التعبير تصلح أن تكون استعارة تمثيلية، لِأنّ الدلوا التي تتأخر في البئر تكون ملأى بالماء، غير تلك التي تعود بسرعة.

أنّ ابن زيدون مكث في السِّجن طويلاً، ما أطلق ابن جهور سراحه فلتمس ابن زيدون له العذر، ويأتي بعلّةٍ أدبيّةٍ، تجعل القبيح الذى فعله أبو الحزم بن جهور مستحسناً، وهو أنّ البلاء البطيئة تأتي مليئة بالماء، فلذا تأخير الأمير في العفو عنه سيعقبه خير كثير.

استشهد ابن زيدون بشعر أبو الطيب المتنبي:

و من الخير بُطءُ سيبك عنّيأسرعُ السُّحب في المسير الجهام[29]

يقول إنّ تأخير جودك وما تجود به من سيب وعطايا فيه خير لي، لأنّك ستجود لي بالكثير، وتأخير العطاء قبيح، لأنّ النفس مولعة بحب العاجل ولكن المتنبي علله وحسّنه.

إنّ ما يسرع من السحاب هو الجهام الذى لا ماء فيه، والبطئ منه وهو الذى يأتي بالماء. وهذه مقارنة جميلة بين الممدوح والسّحاب، فالممدوح يتأخر في العطاء ولكنّه بعد ذلك يجود بعطاء وفير.

قال الصفدي أنّ هذه العبارة " لن يريبني من سيدي...." قد يشير بها ابن زيدون إلى شعر ابن المعتز ويقول أنه أخذ نصف بيته منه وضمّن به رسالته[30]، كما قال:

قلتُ وقد ضجّ رافعاً يدهدعوا البزايا فالله يكلؤها

و استيقنوا بالدواء منه كماأبطأ وفر الدِّلاء أملؤها[31]

قال ابن زيدون: فإن يكن الفعل الّذى ساء واحداًفأفعاله الّلاتي سررن ألوفٌ

بعد أن أعتذر عن سيده أخذ يمدحه فقال، له الحمد على اغتنامه وإحسانه والصبر على إبطائه، فأخذ في تأئيد المعنى فقال إن كان هذا الفعل الّذى تأتيه في هذه الفترة واحداً، فلك أفعال قد سررن وهي ألوف. فلا عبرة بهذا الفعل الواحد الّذى ساء مع اعتبار الأفعال السارَّة وهي ألوف.

قد أخذ ابن زيدون هذا الشعر من أشعار المتنبي وهي:

و كلُّ وِدادٍ لا يدُوم على الأذىدوامَ وِدادي للحُسين ضعيفُ

فإن يكن الفعل الّذى ساءَ واحداًفأفعاله اللائي سررن ألُوفُ

و نفسي له نفسي الفداء لِنفسهو لكنَّ بعض المالكين عفيفُ[32]

قال ابن زيدون: بل وجدت آجرّاً وجصاً فبنيت. ومكان القول ذا سعة فقلت.

أراد دفع ما يتوهم من أنّه يتفضل عله بأذاعة المحاسن ونشر المدائح، يعني أنَّه لا فضل لي في مدائحك، لأنَّني فيها كمن وجد آجُرّاً وجِصاً فبنى بيتاً من ذلك، وشيَّد مكاناً، ولكنَّ لي في ذلك بعض فضلٍ.

يشير ابن زيدون إلى قول المتنبي:

أجاب دمعي وما الدَّاعي سوى طللدعا فلبَّاه قبل الرَّكب والإبلِ

و قد وجدت مكان القول ذا سعةٍفإن وجدت لساناً قائلًا فقُلِ[33]

أراد الشاعر أن يعبر عن أدبه العالي والغالي والمشهور والمنتشر في كل بقعةٍ والذى بلغ في الشهرة مبلغاً جعل من لا علم له بالأدب ينظر إليه ويعلمه، ومن لم يسمع شعراً يسمع كلماته ويدركها، وقد عبر الشاعر " بالأعمى والأصم" وأراد من لا معرفة له بالأدب، ولا علم عنده ويجيده، والعلاقة بين المعنيين السببية، فإن السمع والبصر من أسباب العلم بالأشياء وإدراكها، والعمى والصمم من أسباب الجهل بها، والقرينة قوله "نظر وأسمت" فإنّه يستحيل أن يبصر الأعمى شيئاً، أو أن يسمع للأصم حديثاً.

قال ابن زيدون: يا من يعزُّ علينا أن نفارقهموجداننا كلّ شيء بعدكم عدمُ[34]

معنى البيت هو " يا من يشتد علينا مفارقهم، كلّ شيء نجده بعد فراقكم فهو عندنا عدم، أى وجوده كعدمه". قد أخذ ابن زيدون هذا الشعر من قصيدة المتنبي وضمن رسالته به:

و احرَّ قلباه ممن قلبه شبمو من بجسمي وحالي عنده سقم

يا من يعُزَّ علينا أن نفارقهموجداننا كل شيء بعدكم عدم[35]

كان سيف الدولة إذا تأخرت عنه مدائح المتنبي، شق ذلك عليه وأقلقه، وأكثر معاتبته إذا حضر، وتقدم إليه من بحضرته بالتعريض بالمكروه ومخاطبته بما لا يحسن، فكبر ذلك على المتنبي وآلمه غاية الإيلام، فأنشده هذه القصيدة بمحضر من العرب والعجم وكانت سبب الوحشة بينهما وفساد الحال.[36]

أنَّ صدر هذا البيت يشتمل على معنى مبذول، يتداوله النّاس، وتستعمله الخاصّة والعامّة، لكنّ لما جاء عجز البيت، "وجداننا كلّ شيءٍ..." ارتقى الكلام ارتقاءً عالياً، إذ جعل حيازته لكل شيء بعد مفارقة ممدوحه عدماً أو بمشابة العدم، وهذا معنى دقيق قلّما يخطر على البال، فنُدرة خُطوره على البال لدى معظم النّاس أغلى قيمته الأدبية[37].

أقول في تحقيق المقام أنَّ ابن زيدون قد ضمن رسالته بشعر المتنبي واستشهد به لِأنَّ البيت يعبّر من شعوره النفسيّة لِأجل المناسبة القوية بين أحوال المتنبي وابن زيدون.

ونلاحظ في الأدب العربي أنّ الشعراء قد أخذوا أيضاً من بيت المتنبي الذى استشهد به ابن زيدون، كما قال الشاعر والأديب والواعظ الأبشيهي[38]:

أوحشتمونا وعز الصبر بعدكمو يا من يعزُّ علينا أن نفارقهم[39]

أنَّ الشطر الثاني من بيت الأبشيهي هو نفس شطر الأول من بيت المتنبي، من غير تبديل وتغير، لِأنّه قد أخذ كما هو في نفس الأمر. فهذا يدل على أنَّ هذا كلام المتنبي قد ترك أثراً بالغاً على أذهان الشعراء، فلذا ابن زيدون استشهد وضمنّ رسالته به.

أنَّ الأديب المقري[40] قد ضمّن مقدمة كتابه (نفح الطيب) بأشعارٍ عديدةٍ، الّتي أنشد منها بنفسه وبعض منها نقل عن الشعراء الأندلس، فقال " قلتُ أنا مضمِّناً"[41]

يا من يعزُّ علينا أن نفارقهم من بُعدكم هُدّ ركن الصبر وانهدما

وإن نأي الجسم كرهاً عن منازلكمفالقلب ثاوٍ بها لم يصحب القدما[42]

أنّ المقري ضمّن قطعة شعره بشطر من البيت للمتنبي الذى أورده ابن زيدون في رسالته الجدّيّة.

قال ابن زيدون: شكوى الجريح إلى العقبان والرَّخم"[43]

يتحدث ابن زيدون عن سوء الحال الذى وصل إليه حيث لا أحد يكرمه وشكواه لا تأتي بفائدةٍ، فهي مثل شكوى الجريح إلى هذه الطيور التي تنهش عظامه وتأكله، فهي لا تدري بحاله. قد أخذ القول من شعر المتنبي:

و لا تشك إلى خلق فتشمتهشكوى الجريح إلى الغربان والوهم

يقول يجب على الإنسان ألا يشكو حاله إلى النّاس، مثل شكوى الجريح للغربان والرخم، لأنّ النفس ترى الموت خلوداً وبقاءً وهذه جليلة يعجز الخلق عن ركوبها.

الملخص

أنّ ابن زيدون كتب رسالته في الزنزانة وسماها بالرسالة الجديّة وأرسلها إلى ابن جهور، قد ضمن رسالته بعدّة أبيات الشعراء المشارقة في خلال متن الرسالة وعبارتها وخاصة زيّن بشعر المتنبي.

قد استشهد ابن زيدون أحياناً بجزء من شعر المتنبي وفي بعض الأحيان ضمّن رسالته ببيتٍ كاملٍ وكان يشهد بأبياته لزيادة القوة في المعنى والتأثير بها.

 

حوالہ جات

  1. - تاج العروس، 2/391
  2. - سورة البقرة، رقم الآية: 282
  3. - أبو هلال العسكري: هو حسن بن عبد الله العسكري، كنيته أبو هلال، و أمّا نسبته إلى عسكر مكرم من كور الاهواز، كان عالم بالأدب العربي، صنّف كتباً و أنشد الأشعار، من تصانيفه: جمهرة الأمثال، كتاب الصناعتين النظم و النثر. مات سنة 395م الموافق 1005م.(البغدادي، عبد القادر، " خزانة الأدب" 1/230، الناشر مكتبة الخانجي، قاهرة، 1997م)
  4. -بدوي طبانة "معجم البلاغة العربية" ص/314
  5. -القلقشندي، "صبح الأعشى" 1/60
  6. -المتنبي، أبو الطيب أحمد بن الحسين كان شاعراً مفلقاً عظيم العقل و الذكاء، و كان من المطلعين على أوابد اللغة و شواردها حتّى إنّه لم يُسأل عن شيءٍ إلا استشهد له بكلام العرب من النظم والنثر. لحق الأمير سيف الدولة بن حمدان و مدحه فأحبه الأميرُ وقربه وأجازه الجوائز و أجرى عليه كل سنة ثلاثة آلاف دينار. قُتل 28 رمضان المبارك سنة 354ه. (الزركلي خير الدين، "الاعلام" 1/115، دار العلم للملائين بيروت، 2002م)
  7. - الذخيرة، 1/209
  8. - الصفدي، خليل بن أيبك، تمام المتون، ص/42
  9. - ديوان المتنبي، ص/332
  10. -الذخيرة، 1/209
  11. -ديوان المتنبي، ص/403
  12. -ابن قتيبة، أدب الكاتب، ص/ 424، 545
  13. - أبو هلال العسكري، جمهرة الأمثال، 2/160
  14. - أيضاً
  15. - عبد الصمد بن منصور بن الحسن بن بابك، هو شاعرٌ مجيد مكثر، كان من أهل بغداد، طاف البلاد و لقي الرؤساء و مدحهم و أجزلوا جائزته، توفى سنة عشر و أربع مأة. ( الزركلي، الاعلام، 4/11)
  16. -العكري، عبد الحيء بن محمد، شذرات الذهب، 5/58
  17. -الذخيرة، 1/209
  18. - ديوان المتنبي، ص/339
  19. -هدبة بن خشرم بن كرز، شاعرٌ إسلامي فصيح اللسان كان ينشد الشعر و يروى للحطيئة، قتل شاباً، و شعره وصلنا أكثره قاله خلف القضبان الحديديّة. (البغدادي، عبد القادر بن عمر، "خزانة الأدب"، 9/328، مكتبة الخانجي، مصر،1996م )
  20. -أيضاً، 9/328
  21. -أميّة بن أبي الصلت بن عوف هو علّامة عصره علماً و كتابةً و شعراً و روايةً، كان داهيةً من دواهي ثقيف، قد بلغ من اقتداره في نفسه أنّه قد كان همّ بادّعاء النبوة، و هو يعلم كيف الخصال التي يكون الرجل بها نبياً أو متنبّياً إذا اجتمعت له، حتّى ترشح لذلك بطلب الروايات و درس الكتب، فقد كان عند العرب علّامة. (الجاحظ، عمرو بن بحر "كتاب الحيوان" 2/320 مكتبة مصطفى البابي، مصر ).
  22. -ديوان أميّة بن أبي الصلت، ص/149
  23. - ابن الخياط، أبو عبدالله أحمد بن محمد المعروف بابن الحياط، ولد بدمشق سنة خمسين و أربعمائة، و كان أبوه حياطاً، فالشتهر بالنسبة إليه، كان شاعراً و كاتباً، أنشد الشعر في المدح، و نجد في شعره جزالة الألفاظ من غير إغرابٍ، واضح المعاني و حسن الأداء، و في شعره حلاوة و طلاوة. (ابن منظور، "مختصر تاريخ دمشق" 3/276، دار الفكر دمشق، 1984م)
  24. - ديوان ابن الخياط، ص/81
  25. - هو سيف الدين عمر بن على بن قزل التركماني، شاعر من أمراء التركمان، ولد بمصر، تقلّب في دواوين الإنشاء وتوفي بدمشق سنة 656ه.
  26. - المشيد، سيف الدين عمر بن علي،"ديوان المشيد"، منشأة المعارف بالإسكندرية، 1999م، ص/156
  27. - الطبراني، سليمان بن أحمد، "المعجم الكبير" 10/70، مكتبة ابن تيمية، قاهرة
  28. - الذخيرة، 1/209
  29. - ديوان المتنبي، ص/167
  30. - تمام المتون، ص/95
  31. - النويرى، أحمد بن عبد الوهاب، "نهاية الأرب في الفنون الأدب" 3/95، دار الكتب العلمية، بيروت
  32. - أيضاً، ص/255
  33. - أيضاً، ص/ 336
  34. - الذخيرة، 1/211
  35. - ديوان المتنبي، ص/333
  36. - تمام المتون، ص/345
  37. - الميداني، عبدالرحمن، "البلاغة العربية أسسها و علومها و فنونها" ص/ 83
  38. - شهاب الدين محمد بن أحمد، الأبشيهي، واعظ و أديب و شاعرٌ، من أدباء مصر في القرن التاسع الهجري، ولد في أبشوية و هي قرية تقع في غربي مصر، ولد سنة 790ه، و تُوفى سنة 850ه. (معجم المؤلفين، 9/22)
  39. - الأبشيهي، "المستطرف" ص/407، دار المعرفة بيروت، 2008م
  40. - أحمد بن محمد المُقري وُلد سنة 976ه بمدينة تلمسان، و أصل أسرته من قرية مقرّة، أديبٌ، عالمٌ، نشأ و برع و لعب دوره في الأدب العربي الأندلسي، قد جمع في كتابه تراجم الشعراء و الأدباء الأندلس و آثارهم الأدبية و الثقافيّة. ويعدُّ كتابه نفح الطيب من أهم المصادر في الأدب العربي الأندلسي. (مقدمة المحقق، إحسان عباس، نفح الطيب للمقري، 1/5)
  41. - نفح الطيب، 1/91
  42. - أيضاً، 1/91
  43. - الذخيرة، 1/212
Loading...
Issue Details
Id Article Title Authors Vol Info Year
Id Article Title Authors Vol Info Year
Similar Articles
Loading...
Similar Article Headings
Loading...
Similar Books
Loading...
Similar Chapters
Loading...
Similar Thesis
Loading...

Similar News

Loading...