Search from the Journals, Articles, and Headings
Advanced Search (Beta)
Home > Bannu University Research Journal in Islamic Studies > Volume 4 Issue 2 of Bannu University Research Journal in Islamic Studies

ابتكارات العلامة الزمخشري في علم البديع خلال أسلوب السؤال والجواب في تفسيره الكشاف |
Bannu University Research Journal in Islamic Studies
Bannu University Research Journal in Islamic Studies

Article Info
Authors

Volume

4

Issue

2

Year

2017

ARI Id

1682060029336_518

Pages

100-114

PDF URL

https://burjis.com/index.php/burjis/article/download/132/120

Chapter URL

https://burjis.com/index.php/burjis/article/view/132

Subjects

Rhetoric Novelty al-Kashāf Qur’anic Ījāz

Asian Research Index Whatsapp Chanel
Asian Research Index Whatsapp Chanel

Join our Whatsapp Channel to get regular updates.

ترجمة العلامة الزمخشري:

هو أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الحنفي المعتزلي الملقب بجار الله، لُقّب بذلك لجواره لمكة المكرمة ([1]).

ولد الزمخشري بزمخشر وهى قرية من قرى خوارزم يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر رجب عام سبع وستين وأربعمائة (467هـ).

نشأة العلامة الزمخشري:

نشأ العلامة الزمخشري في أسرة ذات تقوى لا تخالف في أمر الدين وقد اشتهرت بذلك حتى عرفت به وقد كان والده تقيا برا صالحا قواما صواما وكان ذا خلق فاضل ([2]).

رحلاته في طلب العلم وشيوخه:

رحل العلامة الزمخشري لطلب العلم بعد أن خاب أمله ببلده؛ لأنه ما وجد عالما كبيرا، فذهب إلى خراسان، وفى خراسان مدح بها جماعة من أصحاب الصولة والدولة، ومنهم مجير الدولة أبو الفتح على بن حسين الأزدستانى، ورحل إلى بغداد، فسمع الحديث من أبى الخطاب بن البطر، وأبي السعيد الشقاني، وشيخ الإسلام أبى المنصور الحارثى، واجتمع بالفقيه الحنفى الدامغاني، ورحل إلى مكة، وقرأ فيها كتاب سيبويه على عبد الله بن طلحة اليابري المتوفى سنة 518هـ، وهذا هو جواره الأول لمكة، حرسها الله - تعالى- حيث لقي ترحيباً وتكريماً من أميرها العلوي علي بن عيسى بن حمزة بن وهّاس، وكان شريفاً جليلاً هماماً من أهل مكة وشرفائها وأمرائها، ذا فضل عزيز، وله تصانيف مفيدة وقريحة في النظم والنثر مجيدة ([3]).

ومن مشائخه في اللغة والنحو والآداب أبو مُضر محمود بن جرير الضبي الأصفهاني المتوفى سنة 507هـ، وهذا هو الأستاذ الذي يقول عنه ياقوت الحموي: "كان يلقب بفريد العصر، ووحيد الدهر في علم اللغة والنحو، يضرب به المثل في أنواع الفضائل، أقام بخوارزم مدّة، فانتقع الناس بعلومه ومكارم أخلاقه، وأخذوا عنه علماً كثيراً وتخرج عليه جماعة من الأكابر في اللغة والنحو، وهو الذي أدخل على خوارزم مذهب المعتزلة، ونشره بها، فاجتمع عليه الخلق لجلالته وتمذهبوا بمذهبه، ومنهم أبو القاسم الزمخشري"

جهوده العلمية:

ذكر المترجمون أن للعلامة الزمخشري خمسين مؤلفاً في فنون شتى، ومن بينها: التفسير والحديث واللغة والنحو والأدب والترجمة والفقه والحكم والأمثال العربية والزهد والجغرافيا وغير ذلك من الفنون ([4]).

قال عنه ياقوت الحموي: "أبو القاسم الزمخشري جار الله كان إماماً في التفسير والنحو واللغة والأدب، واسع العلم كبير الفضل متفنِّنا في علوم شتى" ([5]).

وقال عنه ابن خلكان: "أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري، الإمام الكبير في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان، كان إمام عصره من غير مدافع، تشد إليه الرحال في فنونه" ([6]).

ومن أهم مؤلفاته: الأول: تفسيره "الكشاف عن حقائق التنـزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل"، قام بتأليفه حينما جاور مكة المكرمة ثانيا، وهو التفسير الذي بسببه طارت شهرته في الآفاق، وقد ألفه بيانا لإعجاز القرآن الكريم والثاني: "الفائق في غريب الحديث" وهو كتاب كما يبدو من اسمه في غريب الحديث، وقد رتبه بترتيب حروف المعجم بدءاً من الهمزة إلى الياء، الثالث: "الرائض في الفرائض" في الفقه، والرابع: "المنهاج في الأصول" في أصول الفقه، وفي علم الجغرافيا ألف المعجم الجغرافي الذي سماه "كتاب الجبال والأمكنة"، وفي أدب التـرجمة ألف "متشابه أسماء الرواة" وكتاب "شقائق النعمان في حقائق النعمان" في مناقب الإمام أبي حنيفة.

وله كتب عديدة في الأدب، ومن أهمها: نوابغ الكلم، وأطواق الذهب، والنصائح الصغار والبوالغ الكبار، ومقامات الزمخشري، وربيع الأبرار ونصوص الأخيار.

ومن كتبه في النحو: المفصل، والأنموذج، وشرح أبيات كتاب سيبويه، مقدمة الأدب، ونكت الأعراب في غريب الإعراب "في غريب إعراب القرآن" غير معروف.

وكتب في اللغة: أساس البلاغة، وصميم العربية، وجواهر اللغة، وأعجب العجب في شرح لامية العرب، والمستقصى في أمثال العرب.

على أي حال، فإن للزمخشري تأليف كثيرة حيث لم يذكر جميعَها أصحابُ التراجم ([7]).

يقول الدكتور مصطفى الصاوي "وهذه المؤلفات إن دلت على شيء فعلى أن حياة الزمخشري العلمية كانت حياة خصبة مليئة حيوية وإنتاجاً"، وهذه نبذة يسيرة عن تنويع مؤلفاته وتكييف تآليفه، تدل بنا على أن الزمخشري كان له باع طويل في اللغة والأدب وله إنتاج غزير في العلوم والفنون ([8]).

مكانته البلاغية:

لم تقف جهود العلامة الزمخشري في البلاغة عند تطبيق القواعد البلاغية التى قررها عبد القاهر الجرجاني في كتابيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة"، بل أضاف إليها أصولا لم يتعرض لها عبد القاهر، بالإضافة إلى أنه وضح كثيراً من القواعد البلاغية التى قررها عبد القاهر.

وتطبيق القواعد البلاغية في هذه الصورة التي فعلها العلامة الزمخشري في تفسيره "الكشاف" ليس بالأمر الهين، فليس التطبيق في المسائل النحوية مثل التطبيق في المسائل البلاغية، ذلك لأنه يسهل على النحوي أن يحلل أو يعرب بعضاً من النصوص، أما المسائل البلاغية فيصعب على البلاغي تطبيقها على النصوص الأدبية ([9]).

ويرى الدكتور محمد أبو موسى أن تطبيقات العلامة الزمخشري في تفسيره تعتبر من إضافاته ما دام يضفي عليها من حسه وذوقه، ويقول أيضاً: "وإذا كان الزمخشري قد طبق كثيراً مما قرره عبد القاهر فقد أضاف أصولاً بلاغية لم يعرض لهاعبد القاهر ونمى كثيراً من الأصول السابقة، وحرر كثيراً من المسائل" ([10]).

ثم أشار ابن خلدون إلى دور العلامة الزمخشري الذي اضطلع به في تفسيره "الكشاف" في هذا المجال قائلا: "وأكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه حتى ظهر جار الله الزمخشري ووضع كتابه في التفسير وتتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن بـما يبدي البعض من إعجازه، فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير" ([11]).

قيمة الكشاف العلمية:

الكشاف موسوعة في التفسير، حافلة بموضوعات كثيرة في الاعتـزال، واللغة، والنحو، والفقه، والقراءات، وما يتصل بها من تعليل، وتدليل، وتمحيص.

قام الكشاف بإحاطة علوم البلاغة؛ "المعاني، والبيان، والبديع"، وكذلك الإعراب وغيره من صنوف الأدب ولقد أضفي هذا النبوغ العلمي والأدبي عليه ثوبا جميلا حتى التفتت إليه أنظار العلماء فأخذوا يَدْرُسُوْنَه ويُدَرِّسُوْنَه.

يمتاز الكشاف بأمور منها:

1- خلوه من الحشو والتطويل.

2- سلامته من القصص والإسرائيليات.

3- اعتماده في بيان المعاني على لغة العرب وأساليبهم.

4- سلوكه فيما يقصد إيضاحه من المسائل البلاغية والنحوية واللغوية طريقة "السؤال والجواب"، هذا الأسلوب وإن اختاره الآخرون من المفسرين نحو الطبري، وقاضي عبدالجبار وغيرهما إلا أنهم لم يستعملوه في سياق تناول مسائل البلاغية والبيان عند تفسير الآي القرانية، أما العلامة الزمخشري فقد ركز عليه، واعتنى به اعتناء بالغا حين تعرضه لمواطن بلاغة القرآن الكريم. وهذا مما زاد من قيمة تفسير "الكشاف" فجعل النفوس تميل إلى تفسيره، والطباع ترغب في قراءته وتناوله. ولهذا نجد حتى الأئمة الذين تكلموا عن الإمام الزمخشري وعن تفسيره من الناحية الاعتزالية قد أثنوا عليه من الناحية الأدبية والبلاغية والنحوية.

وفاته:

وبعد جواره الثانى عاوده الحنين إلى بلده، وفي طريقه إليه مر ببغداد سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وقرأ بعض كتب اللغة على أبي منصور الجواليقي، وعندما بلغ وطنه وافته منيته بجرجانية وهي قرية من قرى خوارزم سنة 538هـ - رحمه الله - بعد حياة حافلة بالعلم والجهد ([12]).

مفهوم البديع في البحث البلاغي

تطلق كلمة البديع في اللغة على معان متقاربة هي: المحدث، والمعجب، والجديد([13]) .

ولعل الجاحظ كان أول من اعتنى بالبديع وأطلقه على فنون البلاغة المختلفة، ولكنه لم يعرفه، ولم يشر إلى فنونه بل كان يطلق هذا المصطلح اطلاقا ([14]).

وقد تردد المصطلح مرات معدودة في كتاب "البيان والتبيين"، والجاحظ يستعمل المصطلح بمعنى القريب من دلالته اللغوية، أي بما يرادف الجد والطرف، والبراعة ([15]).

يقول الجاحظ في تعليقه على أبيات الأشهب بن رميلة، ومن بينها بيته الشهير:

هُمَ سَاعِدُ الدَّهَرِ الّذِي يَتَّقِي بِهِ وَمَا خَيرُ كَفٍّ لا تَنُوءَ بِسَاعدِ

يقول: قوله "هم ساعد الدهر" إنما هو مثل وهذا الذي تسميه الرواة "البديع". ([16])

وبعد الجاحظ يعد ابن المعتز أول من ألف في البديع كتاباً أطلق عليه "البديع"، وقد جعل فيه البديع خمسة أنواع هي: الاستعارة، والتجنيس، والمطابقة، ورد إعجاز الكلام على ماتقدمها، والمذهب الكلامي ثم ذكر بعض محاسن الكلام. ([17])

كما تعرض قدامة بن جعفر في كتابه "نقد الشعر" لبعض أنواع البديع منها: الترصيع، والسجع، واعتدال الوزن، واشتقاق لفظ من لفظ. ([18])

كما ذكر علي بن عيسى الروماني بعض فنون البديع ضمن أقسام البلاغة التي حصرها في الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلائم، والتجانس، وغيرها. ([19])

واتسع مفهوم البديع عند أبي هلال العسكري في كتابه "الصناعتين" فأفرض له باباً مستقلاً ورصد فيه فنونا بلاغيا كثيرا. ([20])

الإمام عبد القاهر الجرجاني وعلم البديع:

كان علم البديع أهون علوم البلاغة الثلاثة حظا من اهتمام عبد القاهر وعنايته فإذا كان قد أفرد لكل من علمي المعاني والبيان كتاباً مستقلاً تناول فيه بالبحث الدقيق، والدراسة المستفيدة مباحثه، فإن مباحث علم البديع لم تحظ منه بأكثر من صفحات معدودة في كتابيه تناول فيها فنين اثنين من فنون البديع الكثيرة وهما: التجنيس، والسجع، وقد ركز عبد القاهر في دراسته للتجنيس، والسجع على الوظيفة التعبيرية والأثر النفسي لهما من ناحية، وعلى تلائمهما وانسجامهما عن نظم من ناحية أخرى. هذه هي نظرة عبد القاهر إلى المحسنات البديعية، فالبديع عنده هو جمال الشكل الذي يطلبه المعنى. ([21])

لقد ظنّ كثير من دراسي البلاغة العربية وعلمائها ومحققيها ومدققيها أن العلامة الزمخشري قد أهمل أحد الأركان الثلاثة لعلم البلاغة، ألا وهو علم البديع لتأثره الشديد بالإمام عبد القاهر الجرجاني، ففعل العلامة الزمخشري بهذا الفرع من الأفرع الثلاثة لعلم البلاغة كما فعل به الإمام عبد القاهر الجرجاني، وهذا مما يؤاخَذُ به ويعاب عليه، ومن ضمن تلك الطائفة الدكتور الجويني الذي يقول في كتابه "منهج الزمخشري في تفسير القرآن": "والزمخشري حين يرى أن القرآن مختص بعلمين هما المعاني والبيان فهو في هذا يتأثر بعبد القاهر الذي يرى مزية الكلام الجمالية في معناه، وأما اللفظ فهو خادم المعنى ولهذا فلن نظفر هنا بأكثر من ثلاثة ضروب من أضرب البديع ـ على كثرتها ـ وليس الزمخشري بهذا منكرا للصنعة البديعية، فبها يحسن الكلام ولكنها قشر بجانب اللب، وما اللب إلا الظلال المعنوية والنفسية التي يوحيها نظم الكلام" ([22]).

آخذ الدكتور شوقي ضيف مسار العلامة الزمخشري مسير الإمام عبد القاهر الجرجاني في عدم بسط الكلام حيال علم البديع قائلا: "رأينا المتكلمين في القرن الخامس من الباقلاني إلى عبد القاهر ينحُّون البديع عن مباحث أسرار البلاغة في الذكر الحكيم. وقد مضى عبد القاهر يكتشف نظرية المعاني، ويضع نظرية البيان لمتشابكاتها الكثيرة، وعرض في تضاعيفها للسجع والجناس وحسن التعليل والطباق، ولكنه لم يُعنَ بعد ذلك بتفصيل القول في ألوان البديع، إذ كان يرى، كما رأى المتكلمون من قبله، أنه لا يدخل في قضية الإعجاز القرآني؛ لأن كثيرا من ألوانه مستحدث، وما جاء منه في القرآن إنما جاء دون تأتٍّ له وتكلف، ومضى الزمخشري على هذا الهدى لا يُعنى بما جاء في الآيات الكريمة من بديع إلا عرضاً، ونرى السيد الجرجاني ينقل عنه - كما مرَّ بنا - أنه لم يكن يعدُّ البديع علماً مستقلاً من علوم البلاغة، إنما كان يعُدُّه ذيلاً لها وتتمة تُحمَلُ عليها. وكانت هذه النظرة إلى البديع عنده سبباً في أن لا يطيل النظر في ألوانه القرآنية وأن لا يلمَّ بها إلا في الحين البعيد بعد الحين، وإذا ألمّ بها مسها في خفة" ([23]).

وهكذا نقد الدكتور الحوفي منهج الزمخشري في تناول قضايا علم البديع قائلا: "والحق أن عبدالقاهر الجرجاني كان يريد بالنظم علم المعاني أي الأسلوب، وكان قد ردد في كتابه أسرار البلاغة كلمة (البيان)، فجاء الزمخشري وأطلق علم المعاني وعلم البيان على ما يطلقان عليه اليوم، وبهذا فصل العلمين بعضهما عن بعض. أما علم البديع فهو في رأى الزمخشري تابع للمعاني والبيان، وليس علماً قائماً بذاته" ([24]).

اللهم إلا أن الدكتور محمد محمد أبو موسى قد خالف رأيهم، ورأى أن الحديث عن بلاغة القرآن الكريم في ضوء علمين؛ المعاني والبيان لا يعني بالضرورة الخروجَ على البديع وفنونه، وعلى هذا الأساس فإن العلامة الزمخشري وإن قسم علوم البلاغة في مقدمة تفسيره؛ الكشاف إلا أنه لم يطبقه في صلب الكتاب، ثم إنه أطلق على العلوم الثلاثة المعروفة؛ المعاني والبيان والبديع بمسمى واحد وهو علم البيان في معظم الأحيان، وأحيانا ذكرها باسم علم البديع، ولعل السبب الحقيق في ذلك هو أن قضايا علم البلاغة بأقسامها الثلاثة وقيمها ومبادئها وأسسها ومعاييرها ومقاييسها لم تكن على حالها صارت عليها مؤخرا، وبخاصة بعد أن بلغت مبلغها في عصر السكاكي وما بعده.

فالذين ادعوا أن العلامة الزمخشري لم يتناول أصلا قضايا علم البديع في طوايا تحليلات بلاغية لكتاب الله –العزيز- أو رأوا أنه وإن ذكر البديع ولكنه لم يعدَّه أحدَ العلوم الثلاثة أو أعده إلا أنه لم يعن به قدر ما عنى بأختيه؛ المعاني والبيان... هو ادعاء بلا دليل مقنع وحجة غانية، لأن العلامة الزمخشري قد تناول أكثر من عشرة فنون لعلم البديع، يقول الدكتور محمد محمد أبو موسى: "ولست أوافق الأستاذ الجويني في تصوره لمرجع المزية عند عبد القاهر، إذ أنها لا ترجع إلى المعنى كما يرى، ولا ترجع إلى اللفظ كذلك، وإنما ترجع إلى النظم، وهذا أمر يفهمه المبتدئون في قراءة كتب عبدالقاهر، وأما أن الزمخشري حَصَر بلاغة القرآن في علمين هما المعاني والبيان فذلك حق، وليس فيه إبعاد للصنعة البديعية؛ لأن علمي المعاني والبيان لم يتحددا في بلاغة الكشاف بالصورة التي يتصورها المتأخرون حين حصروا كلا منهما في أبواب معينة.

ولست أوافقه كذلك في أن الزمخشري لم يذكر إلا ثلاثة أنواع من ضروب البديع بل هو ذكر على ثلاثة أضعاف ما ذكر الأستاذ الجويني.

وقد يكون من أهم ما دفع هؤلاء جميعاً إلى القول بأن ألوان البديع لا تدخل في بلاغة القرآن عند الزمخشري، أنهم وقفوا عند كلامه في التجانس، وأخذوا منه ظاهره، فالزمخشري يقول في قوله –تعالى-: ﴿وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ﴾ ([25])

بعد ما ذكر ما فيها من نكت وأسرار "ولما ذكرنا من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية، ورقصوا لها رؤسهم. لا لتجانس الكلمتين وهما قوله: (ابلعي) و (أقلعي)، وذلك وإن كان لا يُخلى الكلام من حسن فهو كغير الملتفتِ إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب وما عداها قُشُور" ([26]).

يقول الدكتور محمد محمد أبو موسى إن ناقدي العلامة الزمخشري قد وضعوا في الاعتبار العبارة السابقة وأصدروا حكما حاسما بأنه لم يعتن بعلم البديع رغم دوره الريادي في أداء المعنى وإفراز الدلالة، وهذا ليس أكثر من توهم، لأن العلامة الزمخشري تناول البديع وكشف عن إعجاز النص القرآني من خلال تفعيل الفنون البديعة، أما ما ظهر منه في باب الجناس وأخواته، فليس أكثر من عرض موجز، ولا يعني بالضرورة عرض القضية بإيجاز عدمَ الاهتمام بها، يقول الدكتور أبو موسى عن أولئك: "فقد يتوهم أن الزمخشري بهذا يضع من مكانة ألوان البديع في الإعجاز القرآني، والحق أننا لا نسمع منه هذه النغمة إلا في فن الجناس". ([27])

أما ما جاء به في باب الجناس ما ينم عنه شيء من عدم الاهتمام والاعتناء ففي الواقع إنه "راجع إلى انصراف اهتمام الأدباء والشعراء في عصره إلى هذا الفن، حتى صار صناعة ثقيلة متكلفة، فهو بهذا يشير إلى أن ما جاء في القرآن من هذا اللون الذي فتنتم به لم يكن هو وحده سر بلاغته، كما جعلتموه سر بلاغتكم، ولهذا يقول في الجناس في آية ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ﴾ ([28])، "من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعاً، أو يضعه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى، وسداده، ولقد جاء هنا زائدا على الصحة فحسن وبدع لفظًا ومعنى، ألا ترى أنه لو وضع مكان (نبأ) بخبر لكان المعنى صحيحاً وهو -كما جاء - أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال" ([29]).

فالجناس وأخواته من فنون علم البديع تتعلق بالملفوظ، إنها تركز على تحسين اللفظ دون المعنى، فكأنها من المزخرفات اللفظية التي تصب جهدا جاهدا في تزيين الكلمة وتحشيتها بالملحة، على أي حال فإن السبب الرئيسي في إلحاح أولئك الثلاثة من الأجلاء على عدم تدخل علم البديع وفنونه في الإعجاز القرآني يعود إلى الحديث عنها عند الإمام عبد القاهر الجرجاني، فالإمام لم يركز على تنظير علم البديع وفنونه ولم يبحث فيها طويلا ولم يذكر مصاريف القول القائمة عليها، وهذا ما حفزهم إلى القول بألا نصيب لعلم البديع في تبين إعجاز النظم القرآني، أما الدكتور محمد محمد أبو موسى فرأى ذلك أنه ليس أكثر من ظن قائم على غير أساس فرد عليهم قائلا: إن الإمام عبد القاهر الجرجاني لم يترك البديع وفنونه من أجل عدم تعلقها بالإعجاز القرآني بل إنه هجرها لعدم احتياجها إلى الدراسة، لأن كثيرا من العلماء السابقين قد فصَّلوا القول فيها، فلم ير الإمام من باب الإنصاف أن يصب جهده وعناءه في باب لا يجدي نفعا أو يدرس موضوعا دون إبداع وابتكار فيه، فاكتفى في ذلك بما جاء السلف فيه، واختار جانبين آخرين من البلاغة كانا في مسيس الحاجة إلى الدراسة والاعتناء فدرسهما دراسة وافية المراد، يقول الدكتور أبو موسى: "أما لماذا أغفل عبد القاهر ألوان البديع فذلك راجع إلى أن هذه الألوان قد اهتم بها النقاد والبلاغيون قبل القرن الخامس الذي عاش فيه عبد القاهر، وأكملوا بحثها، وحصروا أنواعها فكان عمله لو فعل تكراراً لمجهود غيره، فأولى أن يتناول النظم الذي هو في حاجة إلى وضع القواعد، و تأصيل الأصول، وأن يتناول البيان، فإنه وإن كثر القول فيه إلا أن تحديد الفروق الدقيقة بين ألوانه لم تكن قد اتضحت، ولهذا كانت محاولة الفرق بين التشبيه والتمثيل، ومحاولة الفرق بين الاستعارة والتشبيه، والفرق بين الاستعارة والتمثيل. أكبر الدروس وأجلها في هذا الكتاب، فعبد القاهر قد اهتم بأمور كانت في حاجة إلى جهد، وانصرف عن أمور انتهى القول فيها، وهذا خلق العالم الجاد، أما أن نفهم أنه انصرف عنها لقلة شأنها في البلاغة القرآنية فذلك بُعد عن الحق فيما أرى. ولو تأملنا ما كتبه في التجنيس والسجع لوجدناه دفاعاً عن بلاغة هذه الفنون، ومحاولة جادة لتجلية جانبها المشرق، الذي أطفأته تكلفات الأدباء والشعراء في زمانه" ([30]).

خلاصة الكلمة أن الزمخشري قد تناول علم البديع وفنونه في تضاعيف تفسيره، وابتكر فيها وأبدع ولكن معظم ما تناوله في الباب كان مما لم يكن متعلقا بالموضوع الذي أنا بصدده في هذا المقال، فلم أتناول منه إلا ما ذكره تحت السؤال والجواب؛ فإن قلتَ، قلتُ، وتركت ما عداه.

جاء الزمخشري من فنون علم البديع بالمشاكلة، ويسمى بالمقابلة أيضا لدى بعض البلاغيين، يقول في تفسير آية من سورة البقرة :

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ([31]):

"فإن قلت: كيف جاز وصف القديم سبحانه به، ولا يجوز عليه التغير والخوف والذم، وذلك في حديث سلمان ([32]) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله حييٌّ كريم يستحيي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردَّهما صفرًا حتى يضع فيهما خيرًا"؟، أجاب المفسر عن السؤال الذي افترضه بوجوه عديدة، ومنها كما يقول: "يجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة، فقالوا: أما يستحيي ربُّ محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت؟ فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال، وهو فن من كلامهم بديع، وطراز عجيب، منه قول أبي تمام:

من مبلغٌ أفناء يعرُبَ كلَّهـاأني بنيتُ الجـارَ قبل المنـزل

وشهد رجل عند شُريح ([33])، فقال: إنك لسبط الشهادة، فقال الرجل: إنها لم تجعَّد عني فقال: لله بلادك! وقبل شهادته، فالذي سوَّغ بناء الجار، وتجعيد الشهادة هو مراعاة المشاكلة، لولا بناء الدار لم يصح بناء الجار، و سبوطه الشهادة لامتنع تجعيدها، ولله درّ أمر التنـزيل وإحاطته بفنون البلاغة، وشُعَبِها. ولا تكاد تستغرب منها فنا إلا عثرت عليه فيه على أقوام مناهجه، وأسدِّ مدارجه" ([34]).

هذه العبارة بكل صراحة تدل على اهتمام العلامة الزمخشري بعلم البديع وفنونه، وترد ردا قاطعا على قول القائلين: إن العلامة الزمخشري لم يهتم أصلا بعلم البديع وتركه لمسيره على نهج الإمام عبد القاهر الجرجاني.

أشار العلامة الزمخشري إلى ظاهرة الاستطراد وهو أحد فنون البديع في تفسير آيتين من سورة آل عمران ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ. لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ ([35]) قائلا: "فإن قلت: ما موقع الجملتين أعني "منهم المؤمنون"، و"لن يضروكم" ؟ قلت: هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت، ولذلك جاءا من غير عاطف" ([36]).

تحدث الزمخشري عن ظاهرة التفصيل وهو أحد فنون علم البديع في تفسير قوله تعالى:

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ([37]) قائلا: "فإن قلت: التفصيل غير مطابق للمفصّل؛ لأنه اشتمل على الفريقين، والمفصّل على فريق واحد؟ قلت: هو مثل قولك: جمع الإمام الخوارج؛ فمن لم يخرج عليه كساه وحمله، ومن خرج عليه نكّل به، وصحة ذلك لوجهين: أحدهما أن يحذف ذكر أحد الفرقين لدلالة التفصيل عليه، ولأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني، كما حُذف أحدهما في التفصيل في قوله عقيب هذا "فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به".

والثاني: وهو أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمُّهم، فكان داخلاً في جماعة التنكيل بهم، فكأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته ويستنكر فيعذَّب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين، وبما يصيبه من عذاب الله" ([38]).

وجاء بالتورية - أيضا - في تفسير آية من سورة يوسف :

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ([39])

فيقول: "فإن قلت: ما أذن الله فيه يجب أن يكون حسنًا فمن أيِّ وجه حَسُن هذا الكيد، وما هو إلا بهتان وتسريق لمن لم يسرق، وتكذيب لمن لم يكذب، وهو قوله: ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ... فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ﴾؟ يقول في جواب هذا السؤال المفروض لإقناع القاريء وكل من سيأتي إلى ذهنه هذا السؤال " قلت: هو في صورة البهتان، وليس ببهتان في الحقيقة؛ لأن قوله: "إنكم لسارقون" تورية مما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف" ([40]).

يرى الدكتور محمد محمد أبو موسى أن التورية في الجواب عن السؤال الذي افترضه العلامة الزمخشري لا يصح أن يقصد بها المعنى الاصطلاحي، لأن التورية في مصطلح البلاغيين تعني المعنيين؛ القريب والبعيد، والمقصود منهما هو المعنى البعيد، ففي الآية لا يحتمل اللفظ أو الملفوظ معنيين؛ أحدهما: القريب، والآخر: البعيد حتى يصح أن يُقْصَدَ بهما البعيدُ، من الأولى أن يقال إن العلامة الزمخشري لم يقصد في تفسير "إنكم لسارقون" المعنى الاصطلاحي بل إنه أراد به المعنى القريب إلى الفهم والذوق وهو المعنى اللغوي لكلمة "التورية"، أي: الاختفاء، يقول الدكتور أبو موسى: "التورية لا تظهر بمعناها الاصطلاحي في هذا التعبير؛ لأنها إطلاق لفظ له معنيان قريب وبعيد وإرادة البعيد، واللفظ هنا ليس ذا معنيين، اللهم إلا إذا توسعنا في هذا وقلنا أن فعلهم بيوسف يشبه السرقة لما فيها من مخادعة، وادعاء، وكذب؛ لأنها في نهايتها كانت سرقة لأخيهم.

ولذلك يمكن أن يقال: إن التورية هنا أقرب إلى المعنى اللغوي الذي هو الاختفاء من قولهم: واراه تورية، أخفاه كواراه؛ لأن عليه السلام أخفى مراده في هذا التعبير، وليس للزمخشري حديث عن التورية في تفسيره إلا هذه الإشارة الغامضة" ([41]).

والحديث قد مضى بكل بسط وتفصيل في باب التورية من رسالتي الدكتواره للأسئلة الزمخشري وأجوبتها في الكشاف (دراسة بلاغية تحليلة)، إلا أنني لا أوافق بما جاء الدكتور أبو موسى حينما قال: إن العلامة الزمخشري لم يذكر في تفسيره؛ الكشاف "التورية" إلا في تفسير هذه الآية، مع أنني قد وجدت أنه جاء بالتورية في تفسير آية من سورة الصافات ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ ([42]) أيضا، والأمر الثاني هو أنه يمكن أن يحمل "التورية" في الآية على كلا المعنيين؛ اللغوي وهو الاختفاء، والاصطلاحي وهو احتمال اللفظ المعنى القريبَ والبعيدَ لكن المقصودَ منه المعنى البعيدُ، يقول الزمخشري: "فإن قلت: بين هذا وبين قوله -تعالى-: ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ. قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ ([43]) كالتناقض حيث ذكر ههنا أنهم أدبروا عنه خيفة العدوى، فلما أبصروه يكسّرهم أقبلوا إليه متبادرين ليكفُّوه ويوقعوا به وذكر ثَمّ أنهم سألوا عن الكاسر حتى قيل لهم سمعنا إبراهيم يذمّهم فلعله هو الكاسر، ففي أحدهما أنهم شاهدوه يكسّرها وفي الآخر أنهم استدلوا بذمه على أنه الكاسر! قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يكون الذين أبصروه وزُفّوا إليه نفرًا منهم دون جمهورهم وكبرائهم، فلما رجع الجمهور والعليةُ من عيدهم إلى بيت الأصنام؛ ليأكلوا الطعام الذي وضعوه عندها لتبرك عليه، ورأوها مكسورة اشمأزوا من ذلك، وسألوا من فعل هذا بها؟ ثم لم ينمّ عليه أولئك النفر نميمة صريحة بل على سبيل التورية والتعريض بقولهم، سمعنا فتى يذكرهم لبعض الصوارف، والثاني: أن يكسّرها، ويذهب ولا يشعر بذلك أحد ويكونَ إقبالُهم إليه يزفُّون بعد رجوعهم عن عيدهم وسؤالهم عن الكاسر، وقولهم ﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ﴾ ([44])، ([45]).

ذكر العلامة الزمخشري "المقابلة" أو "التقابل" في تفسير آية من سورة سبأ

قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ([46])

قائلا: "فإن قلت: أين التقابل بين قوله: "فإنما أضل على نفسي" وقوله: "فبما يوحى إليّ ربي"؟ وإنما كان يستقيم أن يقال: فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فإنما أهتدي لها؛ كقوله –تعالى-:

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا([47])، "فمن اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فإنما يضل عليها" أو يقال فإنما أضل بنفسي".

يقول في الجواب عن هذا السؤال " قلت: هما متقابلان من جهة المعنى؛ لأن النفس كل ما عليها فهو بها، أعني أن كل ما هو وبال عليها وضار لها فهو بها و بسببها؛ لأنها الأمَّارة بالسوء، ومالها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه، وهذا حكم عام لكل مكلّف وإنما أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يُسنده إلى نفسه؛ لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيرُه أولى به" ([48]).

عُرِفَ مما مضى أن العلامة الزمخشري بسط الكلام في علم البديع وفنونه من المشاكلة، والمقابلة، والطباق، والازدواج، والتجانس، واللف، والكلام الموجه، وهلم جرا. إلا أنه لم يذكر معظم تلك الفنون تحت أسلوبه السائد في تفسيره؛ الكشاف، "السؤال والجواب"؛ فإن قلتَ، قلتُ. نظرا لذلك اكتفيت ببعضها ما جاءت تحت هذا الأسلوب المألوف لديه، وتركت ما خلا ذلك.

ذكر العلامة الزمخشري تأكيد المدح في تفسير آية من سورة النمل :

قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون﴾ ([49]) قائلا: "فإن قلت: لم رفع اسم الله والله يتعالى أن يكون ممن في السموات والأرض؟ قلت: جاء على لغة بني تميم حيث يقولون ما في الدار أحدٌ إلا حمارٌ، يريدون ما فيها إلا حمار كأن أحدًا لم يُذكر، ومنه قوله:

عشيَّة لا تغني الرماحُ مكانهاولا النبلُ إلا المشرفيُّ المصمم

وقولهم: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا أخوانه" ([50]).

لم يأت العلامة الزمخشري بعد منتهى السؤال؛ فإن قلتَ... بالجواب عنه بـ قلتُ... بل إنه باشره سؤالا آخر يترتب عن السؤال الأول لكون الكلام منوطا بهما قائلا: "فإن قلت: ما الداعي إلى اختيار المذهب التميميِّ على الحجازيِّ؟ قلت: دعت إليه نكتة سريّة حيث أخرج المستثنى مُخْرَج قوله إلا اليعافيرُ بعد قوله: ليس بها أنيس – يشير العلامة الزمخشري بذلك إلى قول الشاعر:

وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير و إلا العيسُ

و اليعافير: الظباء، و العيس: الإبل البيض في بياضها ظلمة، و اليعافير ليست من الأنيس، و لا تدخل تحت مدلولها - ليئول المعنى إلى قولك إن كان الله ممن في السموات والأرض فهم يعلمون الغيب. يعني أن علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، كما أن معنى ما في البيت: إن كانت اليعافير أنيسًا ففيها أنيس بتًّا للقول بخلوِّها عن الأنيس" ([51]).

كلما سبرت أغوار كلام العلامة الزمخشري وجدت لطائف كثيرة وحكما عديدة ما لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، والأمر يجعلني أن أصدق كلام العلامة الزمخشري الذي قاله في مقدمة التفسير؛ الكشاف: "ولقد رأيت إخواننا في الدين من أفاضل الفئة الناجية العدلية، الجامعين بين علم العربية والأصول الدينية، كلما رجعوا إليّ في تفسير آية، فأبرزت لهم بعض الحقائق من الحُجب أفاضوا في الاستحسان والتعجُّبِ، واستُطيروا شوقًا إلى مصنّف يضم أطرافًا من ذلك، حتى اجتمعوا إليّ مقترحين أن أُملي عليهم الكشف عن حقائق التنـزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل فاستعفيت" ([52]).

إنه صدق ما وعد طالبي العلم وسالكي الحق ومولَعي بالعلم حيث ابتكر بالفنون البديعة في طوايا تفسير كلام الله القادر المقتدر، واكتشف الأسرار البلاغية ما لم يهتم بها السابقون، فاستخرج من الكلام ما وعى واستلخص منه ما رأى، إنه بلَغ فأبْلَغَ، وعَرَفَ فعَرَّفَ، وهذا ما يجعلني أقول: إنه ابتكر في علم البديع وفنونه ما لم يبتكره الآخرون، نعم اللهم إلا أن السابقين الأوائل وإن كان لهم فضل التقدم في دارسة فنون البديع ولكنهم لم يدرسوها دراسة تطبيقية، ولم يتعرضوا لها من خلال تطبيقاتها على كلام الله الأحد الذي لم يكن له كفوا أحد.

نتائج البحث

من خلال هذا البحث وصلت إلى نتائج ومن أهمها:

1. العلامة الزمخشري قسم علوم البلاغة في مقدمة تفسيره الكشاف ولكنّه لم يطبق هذا التقسيم في صلب الكشاف؛ لأن قضايا علم البلاغة بأقسامها الثلاثة، وقيمها، ومبادئها، وأسسها، ومعاييرها، ومقاييسها لم تكن على حالها صارت عليها مؤخراً.

2. علم البديع أحد أنواع علوم البلاغة، وله دور ريادي في أداء المعنى وإفراز الدلالة، وكذلك له دور بارز في إعجاز القرآن الكريم.

3. العلامة الزمخشري مع تأثره الشديد بالإمام عبدالقاهر الجرجاني لم ينح منحاه في تناول علم البديع ودراسته.

4. العلامة الزمخشري تناول أكثر من عشرة فنون لعلم البديع في تحليل الآيات القرآنية في تفسيره الكشاف، وكشف عن دورها في إعجاز النص القرآني.

5. الإمام عبد القاهر الجرجاني لم يتناول علم البديع مثل دراسته لعلمي المعاني والبيان في كتابيه "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" لأن النقاد والبلاغيين قبل الإمام عبد القاهر الجرجاني أكملوا بحثها، وحصروا أنواعها فكان عمله لو فعل تكراراً لمجهود غيره. ومن عادته أن يدرس شيئا جديداً، فتناول النظم الذي هو في حاجة إلى وضع القواعد، وتأصيل الأصول، والبيان، فإنه وإن كثر القول فيه إلا أن تحديد الفروق الدقيقة بين ألوانه لم تكن قد اتضحت.

6. التورية والتعريض كلمتان مترادفتان عند العلامة الزمخشري من أجل هذا ذكر أحدهما تلو الثاني في السؤال المفروض في تحليل آية من سورة الصافات، ألا وهي "فأقبلوا إليه يزفون".

7. من فنون علم البديع التي درسها العلامة الزمخشري في تفسيره الكشاف أثناء تحليل الآيات الكريمة "التورية"، و"المقابلة"، و"الجناس"، و"تأكيد المدح بما يشبه الذم" وغير ذلك من الفنون.

8. العلامة الزمخشري يعد فنون البديع سبباً لبلاغة الكلام، وفصاحته عندما تأتي مطبوعاً، أو يضعه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى، وسداده.

حوالہ جات

  1. - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان، تحقيق: الدكتور إحسان عباس، الطبعة الأولى، عام1968م، دار صادر، بيروت-لبنان، ج 5، ص169. وانظر: البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري وأثرها في الدراسات البلاغية ، ص23.
  2. - منهج الزمخشرى في تفسير القرآن، مصطفى الصاوى الجوينى، الطبعة الثالثة، (ب.ت)، دار المعارف، القاهرة – مصر، ص 26.
  3. - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، جلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، عام 1384هـ/1964م، المكتبة العصرية، بيروت – لبنان، ص 284. ومعجم الأدباء، ج 5، ص 489، ومنهج الزمخشرى في تفسير القرآن، ص 36،
  4. - منهج الزمخشري في تفسير القرآن، ص49.
  5. - معحم الأدباء إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، ياقوت الحموي، الطبعة الأولى، عام1411ه/1991م، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، ج 5، ص 489.
  6. - وفيات الأعيان، ج 5، ص 168.
  7. - الزمخشري، الدكتور أحمد محمد الحوفي، الطبعة الثانية، (ب. ت) الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة - مصر، ص 60 – 63.
  8. - منهج الزمخشري في تفسير القرآن، ص 51.
  9. - البلاغة القرآنية فى تفسير الزمخشرى وأثرها فى الدراسات البلاغية، والدكتور محمد محمد أبي موسى، الطبعة الثانية، عامـ 1408ه/1988م، مكتبة وهبة، القاهرة- مصر،، ص 36-37.
  10. - البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري وأثرها في الدراسات البلاغية، ص 36.
  11. - مقدمة ابن خلدون، عبد الرحمن ابن خلدون، فصل "علم البيان"، (ب. ت. ط) دار ابن خلدون، القاهرة – مصر، ص408.
  12. - منهج الزمخشري في تفسير القرآن، ص 42.
  13. ـ أساس البلاغة، محمود بن عمر الزمخشري، تحقيق: محمد باسل عيون السود، ط: 1، عام 1998م - 1419هـ، دارالكتب العلمية، بيروت – لبنان ، ص 50.
  14. ـ معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، الدكتور أحمد مطلوب، الطبعة الأولى، عام 1407هـ/ 1987م، مطبعة المجمع العلمي العراقي، بغداد- عراق، ص 82
  15. ـ البلاغة العربية تاريخها. مصادرها. مناهجها، الدكتور علي عشري زايد، الطبعة الأولى، عام 1982، مكتبة الشباب شارع إسماعيل، ص 42.
  16. ـ البيان والتبيين، عمرو بن بحر بن محبوب الكناني أبو عثمان الجاحظ، الطبعة الأولى، عام 1423هـ، دار ومكتبة الهلال، بيروت- لبنان، ج1، ص 51 .
  17. ـ البديع في البديع، أبو العباس عبدالله بن المعتز، الطبعة الأولى، عام 1410هـ/ 1990م، دار الجيل، القاهرة- مصر، ص 14.
  18. ـ نقد الشعر، قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، الطبعة الأولى، عام 1302هـ، مطبعة الجوائب، قطسنطينية- الجزائر، ص 38.
  19. ـ النكت في إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني في الدراسات القرآنية والنقد الأدبي، تحقيق وتعليق: محمد خلف الله أحمد، دكتور محمد زغلول سلام، الطبعة الثامنة، (ب.ت)، دار المعارف، القاهرة- مصر، ص 86 .
  20. ـ الصناعتين (الكتابة والشعر)، أبو هلال الحسن بن عبدالله العسكري، تحقيق: علي محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى، عام 1419هـ، المكتبة العصرية، بيروت- لبنان، ص 268.
  21. - البلاغة العربية تاريخها. مصادرها. مناهجها، ص 136- 137 .
  22. - منهج الزمخشري في تفسير القرآن وبيان إعجازه، ص 259.
  23. - البلاغة تطور وتاريخ، الدكتور شوقي ضيف، الطبعة الرابعة عشر، (ب.ت)، دار المعارف، القاهرة- مصر، ص 266.
  24. - الزمخشري، ص 203.
  25. - القرآن: هود، الآية: 44.
  26. - الكشاف عن حقائق التنـزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، جار الله محمود بن عمر الزمخشري، شرح وضبط: يوسف الحمادي، الطبعة الأولى، (ب.ت)، مكتبة مصر، القاهرة- مصر، ج 2، ص 406.
  27. - البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري وأثرها في الدراسات البلاغية.
  28. - القرآن: النمل، الآية: 22.
  29. - البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري وأثرها في الدراسات البلاغية، ص 573-574. والكشاف، ج 3، ص 403.
  30. - البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري وأثرها في الدراسات البلاغية، ص 575.
  31. - القرآن:البقرة، الآية: 26.
  32. - سلمان: هو سلمان الفارسي، من خيرة من أسلموا من أبناء فارس، وأوفاهم لرسول الله والرسالة، وهو الذي أشار بحفر الخندق، فأغنى غناءه في غزوة الأحزاب.
  33. - شريح: كان من العلماء الدينين الذي لمع ذكرهم في العصر الأموي، وكان من العرب، وممن يفاخرون بهم الموالي، وكان مرجع الفتوى في كثير من الأمور بمدرسة الكوفة التي ترجع ريادتها الأولى إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
  34. - الكشاف، ج 1، ص 107-108.
  35. - القرآن: آل عمران، الآيتان: 110-111.
  36. - الكشاف، ج 1، ص 353.
  37. - القرآن:النساء، الآيتان: 172-173.
  38. - الكشاف، ج 1، ص 516.
  39. - القرآن: يوسف، الآية: 76.
  40. - الكشاف، ج 2، ص 486.
  41. - البلاغة القرانية في تفسير الزمخشري وأثرها في الدراسات البلاغية، ص 587.
  42. - القرآن: الصافات، الآية: 94.
  43. - القرآن:الأنبياء، الآيتان: 59-60.
  44. - القرآن:الأنبياء، الآية: 61.
  45. - الكشاف، ج 3، ص 684.
  46. - القرآن: سبأ، الآية: 50.
  47. - سورة فصلت، الآية: 46.
  48. - الكشاف، ج 3، ص 615، 616.
  49. - القرآن:النمل، الآية: 65.
  50. - الكشاف، ج 3، ص 420.
  51. - الكشاف، ج 3، ص 420.
  52. - الكشاف، ج 1، ص 4.
Loading...
Issue Details
Id Article Title Authors Vol Info Year
Id Article Title Authors Vol Info Year
Similar Articles
Loading...
Similar Article Headings
Loading...
Similar Books
Loading...
Similar Chapters
Loading...
Similar Thesis
Loading...

Similar News

Loading...