Search from the Journals, Articles, and Headings
Advanced Search (Beta)
Home > Bannu University Research Journal in Islamic Studies > Volume 5 Issue 1 of Bannu University Research Journal in Islamic Studies

الاقتباس من الحديث النبوي صلى الله عليه وسلم في شعر السجون لعبد الملك بن إدريس الجزيري الأندلسي |
Bannu University Research Journal in Islamic Studies
Bannu University Research Journal in Islamic Studies

Article Info
Authors

Volume

5

Issue

1

Year

2018

ARI Id

1682060029336_536

Pages

97-114

PDF URL

https://burjis.com/index.php/burjis/article/download/140/129

Chapter URL

https://burjis.com/index.php/burjis/article/view/140

Subjects

Prison`s poetry of Abdul Malik bin Idrees Aljazari Citation Hadith

Asian Research Index Whatsapp Chanel
Asian Research Index Whatsapp Chanel

Join our Whatsapp Channel to get regular updates.

التعارف

أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيرى الأندلسي،نشأ و برز فى العلم و الأدب و اشتهر في الجزيرة الخضرآء بعلم العدد و الحساب، و مع ذلك كان من الشعراء و هو من كتّاب المنصور بن أبي عامر، فتبوأ منصباً كبيراً في الكُتَّاب، و صاحب ديوان الإنشاء في عهد حكومته. [1]

سبب حبس الجزيري و اعتقاله

قد سُجن الجزيري مرتين، مرةً في عهد الحاجب المنصور بن أبي عامر و الثاني في عهد عبد الملك المظفر حتّى قُتل في غياهب السِّجن.[2]

أمَّا سبب حبسه في عهد الحاجب المنصور بن أبي عامر هو الفخر و الغرور و هو كان يظنُّ نفسه أنَّه صار يحتل المكانة العالية و الرفيعة و أنَّ المنصور بن أبي عامر لا يستطيع أن يستغني عنه لِأنّه صار مقرباً عنده، و كاتبه و رئيس ديوان الإنشاء لديه، و كان يزري بغيره من الكُتّاب، فغضب عليه المنصور أشدُّ غضباً، و نقم عليه نقمةً، فسجنه مدّةً في المطبق بالزاهرة، ثُمَّ أبعده عن قرطبة و سُجن في قلعة مُهيبةٍ ، و بعد مدّة رضي عنه و أطلق سراحه و أرجع إليه منصبه و وظيفته و ما زال عنها حتّى مات المنصور. و أمّا اعتقال الجزيرى ليكون درساً نافعاً له، و مكافأة للذنب الّذي اقترفه، وقد استعطفه الجزيري بالشعر، ثُمَّ صفح بعد عنه و أطلق سراحه و أخرج من السِّجن ورد عليه ما كان اعتقل من ماله. [3]

قال صاحب الذخيرة عن سبب اعتقاله على يد عبد الملك المظفر و موجزها ما يلي:

قد ولّى المظّفر بن أبي عامر أمور دولته عيسى بن سعيد القطّاع، فحسده رجالٌ، منهم عبد الملك الجزيري، فدبّر المظّفر للقبض عليهم، و نجح تدبيره و أمر بحبس الجزيري في مطبق الزّاهرة، و انتهز عيسى بن القطاع الفرصة، فكتب إلى مفرّج العامري و عبد الملك بن مسلمة و كانا من أعداء الجزيري، و حرّضهما على عاطفة ثأريّة، فأدخل عليه في معتقله رجال من السودان فخنقوه، و دفن سنة 394ه.[4]

الاقتباس من الحديث النبوي صلى الله عليه وسلم

كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم باللغة العربية، و يستعمل الكلمات العذوبة، ذا أثرٍ بالغٍ في النفوس، حتّى عجب بها أهل الفصاحة، و عند الخطابة له أساليب منفردة، و طرق متميزة، و وصل أفكاره إلى أذهان النّاس بسهولة الألفاظ و جزالتها، و كان لا يطلب وسائل الصنعة لكنّ عند الكلام كان يجمع كل الصفات الحلاّبة، و لا يستعمل الكلمات الغريبة، و لا يملّ طبيعته عند الاستفسار منه، و لا يتردد عند الحوار بالوفود الأجنبية، فلذا أخذ الأدباء و الشعراء من كلام النبوة.

و نرى أثراً بالغاً و أمثلةً كثيرة للإقتباس من أحاديث النبوية صلى الله عليه وسلم في الشعر و النثر و خاصة في الشعر الزهدي، و هذا الأسلوب نجد في الشعر المخضرمي و الإسلامي و العباسي و الأندلسي و في عصرنا الحديث.

وعبد الملك بن إدريس الجزيري قد اقتبس من القرآن الكريم و الحديث النبوي صلى الله عليه وسلّم في شعره السُّجون، قد بحثت عن اقتباسه من القرآن الكريم في مقالة كتب الباحث قبلها تحت الموضوع " أسلوب الاقتباس القرآني في شعر السُّجون لعبد الملك بن إدريس الجَزيري الأندلسي" و هذه مقالة تشتمل بدراسة الاقتباس الجزيري في قصيدة التي كتبها وراء جدران السِّجن من الأحاديث النبوية صلى الله عليه و سلّم باقتباس نصّيٍ و إشاريٍّ، لكن عند إمعان النظر ظهر لنا أنَّه اقتبس من القرآن الكريم باقتباس نصيٍّ أكثر و من الحديث النبوي صلى الله عليه وسلم باقتباسٍ إشاريٍّ، و تارةً يأتي بنص الحديث لا سيما في نصائحه و مواعظه و حكمه، و هذه الأسلوب قد نجد في شعر الأندلسي أكانوا الشعراء في غياهب السُّجون أو في حياة حريّةٍ.

شعر عبد الملك الجزيري في السِّجن و الاعتقال

عبد الملك بن إدريس الجزيري كان من الشعراء الّذين أنشدوا القصائد المطولات في حالة السِّجن و الاعتقال، كما أنشد قصيدته الرائيّة خلف الأسوار و القضبان مشتملة على تسعة عشرة و مائتي أبياتٍ.

و نلاحظه خلال شعره الاعتقالي رجلٌ حزين، يترعرع في قلبه الوحشة و الغم الّتي واجهه في الدار الدامس و في غرفة المظلمة، و رجلٌ غمّس نفسه في الهموم، و غوّص في الأمور المؤلمة الموّحشة المدهشة، و حنَّ في حُبِّ الأولاد، و بكى على فقدان وظيفته و منزلته عند المنصور و عبد الملك المظفر، و هذه الآلآم دفعتِ الشاعر إلى التعبير منها بقصيدته الطويلة الّتي ما وقفت على عشرين بيتاً أو خمسين بل انتهت على تسعة عشرة و مأتين من الأبيات المعبّرات عن أحوال الشاعر أو ما وقع عليه في السِّجن.

و نجد الشاعر أنّه وصف بشعره سجنه و معتقله و حصصه المظلمة، و برجه العالي و الرفيع الّذي يتكلم في الليل مع الكواكب،و يشير به إلى ارتفاع المعتقل ثُمّ ميناره و برجه الرفيع، فحبس فيه إلى مدّةٍ، و اعتقله باعتقال العزلة و الوحدة، و قيّده بالأغلال، لأ يأوي إليه إلا الغربان، و ليس هذا المعتقل ليسكن فيه الإنسان لِأنّ عمارته خرابٌ، و هدمت بعض قوائمه و أعمدته، و يتكلم الشاعر بنجوم السماء، و معتقله بعيد من الأرض لِأجل الارتفاع، لكنّه ما يئس من فضل الله و رحمته لِأنّه يُحرِّر القيود و يطلق سُروح المساجين.

تأثير السِّجن على قِيمه الخلقيّة المستنبطة من الأحاديث النبويّة

قد استهلّ الشاعر قصيدته الطويلة ببيان ما أصابه من الهم و الحزن، و المصيبة و المشقّة، كما حُرم زيارة أولادهم الصغار و الكبار، فما زاد في قلبه إلّا ألماّ و إحساساً بفقدان أولاده و أهله، و أصدقائه الكرام، حتّى فقد الرغبة في الدنيا و حياتها الفانية، و ذهب سرور قلبه و ضاعت لذة عيشه و حياته، فرجع إلى الزهد و الوعظ و النصيحة لِأولاده، كما نجد شوقه الشديد، و لوعة حبّه لهم في حالة الفراق و الاعتقال، فنقل الشاعر المظلوم و المسجون إلى النصائح و الوعظ لِأولاده كما كان لا يملك لهم في المعتقل و القيد إلَّا النصيحة باللسان و التربيّة الأبويّة بالبيان، فأرشدهم إلى تحصيل العلم و الحرص عليه، و العمل بما جاء به رسول الرحمة و هادي الجنّة، و أخبرهم على أن لا فائدة و لا قيمة للعلم الّذى لا يُعمل به أو إذ لم يُؤدِ إلى عمل صالحٍ.

و نجد الشاعر أنّه استمد معاني الشعر من الأحاديث النبوية على صاحبها ألف ألف تحيّة وسلاماً، و يستشهد بها و تأثر منها بتأثير قوّيٍ، لِأنَّ من يحبُّ الوصول إلى أكرم المنازل و أشرفها و يريد الفوز في الدارين فعليه أن يعمل بأحاديث رسول الأنام و النبي الرحمة، كما ترك لنا القرآن و الحديث و هما طريقتان و منهجان إلى الجنّة. فلذا نصح الشاعر أولاده بأشعار المقتبسة و متضمنّة معناها بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم و هذا على سبيل رقّة قلب الشاعر بعد ما لحقه الألم و الفراق و العيش المرير خلف الأسوار.

تأثير الحديث في شعره السُّجون

نبحث عن قبول أثر الشاعر من الأحاديث النبويّة في شعره السُّجون، نعني أنّ الشاعر كيف أخذ الأثر منها؟ هناك في عصر ملوك الطوائف أي العصر الّذى عاش فيه الشاعر عبد الملك بن إدريس الجزيري صلات قويّة لدرس و التدريس، و تعليم العلوم الدينية و العصرية، وحلقات الأحاديث في المساجد و المدارس، الأمراء و الوزراء كانوا يحبُّون أن يعلموا أولادهم الكتابة و الشعر و الأدب و التفسير و الحديث و الفقه و العلوم الأخرى، و هكذا بنى بعض الملوك المدارس الدينية في قصورهم العالية النفيسة، و كانوا يتعَهّدون و يشرفون تلك المدارس، لكي لا يغفلوا و لا يهملوا منها، فلا عجب أنَّ الشاعر أيضاً حصل العلوم في تلك المدارس، كما أنّه برز في علم الحساب و الرياضيِّ و كان له دور هام في تنظيم مصلحة الحسابات و ديوان الإنشاء و فحص الدفاتر الماليّة و التشريفيّة.

و عند إمعان النظر نلاحظ الشاعر أنّه دقّة التعبير في تقبيس المعنى من الحديث و القرآن، و عمق النظر بعلمها و فهمها، و سياق المعنى لمطلوبه منهما، و ثبت أنّ الوالد الكريم لا ينسي في محبسه و معتقله تربيّة الأولاد و فرضية الأبويّة حتّى أنشد قصيدة طويلة مشتملة على النصائح و الوعظ، مستمدّة باقتباس القرآن و الحديث.

صلة شعره السُّجون بالأدب الإسلامي

كما ذكرنا أنّ الشاعر عبد الملك بن إدريس الجزيري تأثر من القرآن و الحديث، و له الهدف الخاص من قصيدته التي أنشده خلف قضبان السِّجن، و هو يسعي إليه بكل جهدٍ، و بكل دليلٍ يأتي في ذهنه، و يستشهد من المصادر الإسلاميّة، و ما كان هدفه إلّا تربيّة أولاده بتربيّةٍ إسلاميّةٍ، و كان يخبر أهله بشعره السُّجون أنّ المجتمع الإسلامي لها سمات متميّزة عن المجتمعات الأخرى، و هذه السِّمات تهدي إلى طاعة الله تعالى و رسوله المكرم، و ابتغاء مرضاته، و تجتنب الإنسان من عقابه و عذابه، فشاعرنا الجزيري ينصح أولاده باعتقالياته و يعظهم بسجنياته لكي لا ينسى أهله هذه السمات الإسلاميّة و لا يغفل عن العقود الأخلاقيّة، و يلتزم على الشرائع الدينيّة القانونية، و يعمل عملًا صالحاً، فهذا الهدف كان يترعرع في ذهن الشاعر فعبّر عنه بشعره.

فأقول في تحقيق المقام أنَّ شعره يتعلق بالأدب الإسلامي كما ذكرنا أهداف شعره السُّجون و أغراضه، لِأنّ كل من الأغراض و الأهداف تتعلق بتربيّة الأولاد بنشأةٍ إسلاميّة، و أصوله الدينيّة، و شرائعه القانونيّة، فالأدب الإسلامي أيضاً يدعونا إلى هذه الأهداف و الأغراض تكون في أدبنا من النثر و الشعر.

قال أبو الحسن علي الندوي: "أنَّ الأدب الإسلامي هو الأدب الّذى يصل به الإنسان إلى معرفة مظاهر الحياة اليوميّة، و إلى مجالات العمل، و يميّز بين اللائق بإنسانيّة الإنسان و غير اللائق بها، و لا يخرج من إطار إسلامي و يلزم إلى الفائدة و الهدف الخاص، و هو لكونه تعبيراً عن ظواهر الحياة الإسلاميّة"[5]

إنَّ موضوعات الشاعر الجزيري التي استشهد بها في شعره السُّجون من الأحاديث النبوية صلى الله عليه وسلم فنبحث منها بالعناوين التالية تسهيلاً للقارئين:

الترغيب في لزوم الجماعةالدِّين النصيحة رؤية الخالق في الجنان

الحوض و الشفاعة حقٌ القضا و القدرلقاء النكير و المنكر في القبر

حفظ اللسان اليقين بكل ما سمع الوصية بالعلم و العمل

الاجتناب عن الظلم و الحسد و سوء الظنِّ و الغيبة

الترغيب في لزوم الجماعة

أنشد الشاعر في السِّجن قصيدته و نصح بها أولاده فيقول:

لا تخرجنَّ عن الجماعة إنّهاتأتمُّ بالحقِّ الجليِّ الأنور[6]

اقتبس الشاعر من حديث الرسول صلى الله عليه و سلّم و هو يشير به إلى لزوم الجماعة، و يعظ أولاده أن لا يفرقوا عن الجماعة لِأنَّ من شذَّ شُذَّ في النّار، و من وقع في التَّفرقة و خرج عن الجماعة فيلحقه الضرر و الخُسران لِأنَّ يدَ الله على الجماعة، كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلّم " أوصيكم بأصحابي، ثُمَّ الّذين يلُونهم......... عليكم بالجماعة، و إيّاكم و الفُرقة، فإنَّ الشيطٰن مع الواحد، و هو من الإثنين أبعدُ، من أراد بُحبوحة الجنّة، فليلزم الجماعة......"[7]

و عن ابن عمر قال أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يدُ الله على الجماعة، و من شذَّ شُذَّ إلى النار".[8]

و نقل الإمام البخاري: "إنّ من فارق الجماعة شبراً، فمات إلاَّ ميتةً جاهليّةً ".[9]

قال ابن العربي[10] في تفسير الجماعة و هي جماعة أهل الفقه و العلم و الحديث.[11] و نقل قول عبد الله بن المبارك بالجماعة حيث يجتمع أركان الدين، و ذلك عند الإمام العادل أو الرجل العالم، فهو الجماعة.... و جماعة العلم و العدالة.[12]

أمَّا نصيحة شاعر السِّجين الجزيري لِأولاده واستشهاده بهذا الحديث يدُلُّ على غرضين، الأوّل: الشاعر يعظهم بأن لا يفرقوا من جماعة المسلمين وجماعة أهل العلم والعرفان والفقهاء و المحدثين المهديين.

و أمّا الغرض الثاني هو أنّ الجزيري يشير إلى تجربته الخاصة و هي أنّه ارتقى إلى منزلة كريمة عند الأمير و هو كان يفتخر بمكانته العالية، و كان يظنُّ أنَّ المنصور بن أبي عامر لا يستطيع أن يستغني عنه لِأنّه صار مقرِّباً عنده، و كان كاتبُه و رئيس ديوان الإنشاء لديه، و حسده رجالٌ من الرؤساء و صواحب الوظائف الحكوميّة منهم، فغضب الأمير عليه و سجنه، فنصح الأولاد أن لا يفرقوا من جماعة النّاس الّذين لهم صلات مع الأمير و لا يخالف الأمير في أمر ما.

الدِّين النصيحة

قد اعتمد الجزيري على معاني الحديث النبوي صلى الله عليه وسلم كثيراً في شعره السُّجون، و يدُلُّ على عُمق علمه و فهمه و شغفه و فكره التربويَّة، و هو يريد نشأة أولاده بالنشأة الإسلاميّة، فلإيصال المعنى إلى قلوبهم في أحسن صورة من اللفظ يقتبس و يستشهد من الأحاديث النبوية صلى الله عليه وسلم كما يقول:

و كذلك الدين النصيحة فابغهاللمسلمين و للأئمّة تُؤجر[13]

اقتبس الشاعر من هذا الحديث "الدين النصيحة" ثلاث مرارٍ، قالوا: لِمن يا رسول الله؟ قال: لله و لكتابه و لِأئمّة المسلمين و عامّتهم"[14]

أنَّ الشاعر الجزيري وعظ و نصح أولاده بأنَّ الدين نصيحة، فما المراد من النصيحة؟

قال الجوهري: نصح ينصح نصيحة و نصحاً، كلَّ شيءٍ نصح فقد خلص.[15]

هي كلمة معناها إرادة الخير للغير.فمعنى الحديث هو إرادة الخير للغير من شعب الإيمان فلا يكمل إيمان المرء إلاَّ بها. [16]

قد اقتبس الشاعر الجزيري في شطر الثاني من البيت، الجزء الثاني من الحديث المذكور " الدين النصيحة للمسلمين و للأئمّة" المراد من الأئمّة هم خلفاء المسلمين و أمراؤهم و ولاتهم، و النصيحة لهم هي طاعتهم في الحقِّ و معاونتهم عليه و أمرهم به، و تذكيرهم، لِأنِّ الشاعر قد كان حصل تجربةً مريرةً في صورة الحبس و القيد و الاعتقال و النكل، فنصح أولاده بطاعة الأمير و اتباعة الوزراء في أمور الخير و الاجتناب عن اختلافهم.

رؤية الرَّب تبارك و تعالى في الجنان

أنَّ الشاعر الجزيري يكشف عن تفاؤله بهذه الشعر بذكر رؤية الرَّب في الجنان و لعلّه يظفر بما يرتجيه من العفو و الصفح، و إطلاق سراحه و الخروج من غياهب السِّجن كما قال:

والله يبدو في الجنان لِأهلهافيرونه رأي العيان المظهر[17]

قد اقتبس الشاعر من حديث سيد المرسلين عليه السلام "إنَّكم ستُعرضون على ربِّكم، فترونه كما ترون هذا القمر لا تضامُّون في رؤيته"[18]

وفي الجنة ينادي منادٍ لِأهل الجنة ويدعوهم إلى اللقاء فيُكشف الحجابُ. قال عليه السلام:فوالله ما أعطاهم شيئاً أحبَّ إليهم من النّظر إليه"[19]

قال صاحب مرقاة و هو يروي عن الإمام النووي،" إنَّ رؤية الله تعالى ممكنة غير مستحيلة عقلاً، و أجمعوا العلماء على وقوعها في الآخرة، و أنَّ المؤمنين يرون الله تعالى دون الكفرين".[20]

زعمت المعتزلة و الخوارج " أنَّ سبحانه و تعالى لا يمكن لِأحدٍ أن يراه.[21]

أنَّ قول المعتزلة و الخوارج ما قالوه خطأ صريح لِأنَّ ورد النص الصريح في القرآن الكريم و يدُلُّ ذلك النَّص برؤية سبحانه و تعالى كما قال " وُجُوهٌ يَومَئِذٍ نَاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَهٌ"[22]

ثبت أنَّ الشاعر الجزيري هو كان يعتقد إعتقاداً جازماً على رؤية الله تعالى في الجنّة كما ننظر القمر ليلة البدر، و كما لا يرتابُ المؤمنون فيه و لا يمترون.

و ظهر لنا أيضاً أنَّ عقيدة الشاعر السِّجين الجزيري وافقت بعقيدة أهل السُّنة و رسخت و ثبتت في قلبه، و هو مطمئن بها. و مع ذلك أنّه يرفض و يردُّ قول المعتزلة و الخوارج بشعره و يستدلُّ بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم مقتبس منها و قوي بها معنى شعره لكي لا يبهم و لا يخفى عليهم الحق. و الله يهدى لمن يشآء.

و في شعره إمكان المعنى المجازي و هو حالة الحريّة التي كان يعيش الشاعر قبل أيَّامه في السِّجن في بلاط المنصور بن أبي عامر، تحت ظلِّ كرمه و بحياة الترف والنعم، و هو يأمل أن يطلق الأمير سراحه و يجعله من المقرّبين و الحاشيين في بلاطه كما هو في الماضي، فيكون بلاط الأمير كمثل الجنّة له و هو ينظر إليه كما يرون أصحاب الجنّة و المقرّبين إلى ربّهم.و نلاحظه خلال شعره أنَّه يستمد من الكلمات المرادفة

الحوض و الشفاعة حقٌ

عبد الملك بن إدريس الجزيري كان يذكر في شعره السُّجون عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم و شفاعته لِأمّته و يقول أنَّهما حقٌ لا يُنكر ولا يُمتر فيهما بل إنَّ المؤمنين يعتقدون و يأملون لشفاعة محمد النبي المختار، اللهم ارزقنا من شفاعته قال الشاعر:

و الحوض حقٌ و الشفاعة مثلهلا يُشكلان على امرئٍ لا يمتري[23]

اقتبس الشاعر من جملة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تدلُّ على صفة حوض الكوثر و شفاعة النبي منها:

و أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم " بينا أنا أسير في الجنّة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدُّر المجوِّف، قلتُ ما هذا يا جبريل؟ قال هذا الكوثر الّذى أعطاك ربُّك فإذا طينُه مِسكٌ أذفرُ".[24]

قل صاحب مرقاة: قد أعطى الله للنبي الكريم حوضين، أحدهما في الموقف و ثانيهما في الجنّة.[25] و الصحيح أنَّ الحوض قبل الميزان، فإنَّ النّاس يُبعثون عطاشا من مراقدهم فيقدم الحوض قبل الميزان.[26]

و قال الشاعر " و الشفاعة حقٌ" ، يقتبس من جملة أحاديث الشفاعة منها:

" أسعد النّاسِ بشفاعتي يوم القيامة من قال : لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه".[27]

و عن عوف بن مالك الأشجعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتاني آتٍ من عند ربّي، فخيّرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة و بين الشفاعة، فاخترتُ الشفاعة، و هي لمن مات لا يُشرك بالله شيئاً".[28]

قال ابن منظور :الشفاعة هو ضم الشيء إلى مثله و منه الشفاعة و هو الانضمام إلى آخر ناصراً له و ساتراً عنه.[29]

أنَّ الشاعر الجزيري كما هو في سجن المنصور بن أبي عامر في غياهب السِّجن، فيشعر الحزن و يذكر الأولاد و الأيّام الماضية، فأرسل هذه الرسالة الشعرية إلى ممدوحه ليستعطف بها، فزيّنها بذكر الشفاعة و نعمة الحوض الكوثر لكي يرحم الأمير و ينزل عليه رحمةً، و يُطلق سراحه و يخرجه من زنزانة السِّجن.

القضا و القدر

قال الشاعر الجزيري أنَّ الصعوبات و الحوادث و صروف الدهر و المنِّ و الخير تأتي على الإنسان ما قضى الله له من خيرٍ أو شرٍّ، من العسر و اليسر، و من السُرورٍ أو مِن عذابٍ أليم، يقول:

من لم يذُق طعم بؤساة وشدّتهالم يدرِ لذّة نعماهُ و لا وجدا

و دون هذا الَّذي قالوه أقضيةٌلله في حكمه لم يُؤتها أحدا

لا بُدَّ للقدر المقدور من أمدٍيلقاك فيه على حتمٍ وإن بعدا[30]

اقتبس الشاعر المعاني من آية القرآن الكريم و الحديث النبوي صلى الله عليه وسلم، فمن القرآن "وَ كَانَ أمْرُ اللهِ قَدَرَاً مَقْدُوْراً"[31]. فالشاعر يفضي أمره إلى الله تعالى أنَّ هذا كلّه من جانب الله تعالى و هو خير الحاكمين.كما قال علي رضي الله عنه:

في الجبن عارٌ و في الإقدام مكرمةو من يفرَّ فلن ينجو من القدر[32]

مثل هذا قال الإمام الشافعي رحمة الله عليه:

و أرض الله واسعةٌ و لكنإذا نزل القضا ضاق الفضاء

دع الأيَّام تغدر كلَّ حينفما يُغني عن الموت الدّواء[33]

و قال يحي بن حكم الغزال[34]:

فالق الزّمان مهوِّناً لِخطوبهو انجرَّ حيثُ يجُرُّكَ المقدور[35]

أنشد الجزيري في رسالته الشعرية و يشير بأبياته إلى قضاء الله تعالى و قدره:

فلو ابتغيت لكلِّ جهدٍ نيل ما سبق القضاء بمنعه لم تقدر

و لو اجتهدت لرفع ما يُؤتيكهآتاكه إتيان مُزجىً مجبر

تدبير مقتدرٍ تعالى قدرهأن يُبتغى من دونه بمدبّر[36]

اقتبس الشاعر من حديث سيدنا و نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال:النبي صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن عبدٌ حتّى يُؤمن بالقدر خيره و شرِّه، حتّى يعلمَ أنَّ ما أصابه لم يكنُ ليخطئه، و أنَّ ما أخطأه لم يكن لِيُصيبه".[37]

يشير الشاعر في هذه الأبيات إلى حياته الماضية المنعمة، و إلى أيّامه في القيد و الزنزانة المظلمة، و محنة السِّجن و نكبته، و هذا كلُّه ينسب إلى قضاء الله تعالى و قدره، و يرتكب أنَّ حوادث الزمان و رفعه و خفضه، و عزته و خذله، الّتي كتب الله القادر المقتدر يأتي على الإنسان ابتلاءً أو عقاباً فليس له مانع بعقل و بتدبير و بجهدٍ مسلسلٍ و هو فعَّال لما يريد، فيقضي و يقدر بقدرته و هو على كلّ شيءٍ قدير. يعزُّ من يشآء و يذلُّ من يشآء، بيده الخير.

لقاء النكير و المنكر في القبر

إذا مات الإنسان و يدفن في قبره فيأتي إليه ملكان، المنكر و النكير، يسئلان منه، عن ربّه و نبيّه و دينه، فإذا هو المؤمن فيجيب، الله ربّه و محمد صلى الله عليه وسلم نبيّه و الإسلام دينه، و بالعكس فهو الخسران المبين. اللهم ثبت قلوبنا و ألستنا على توحيد الله تعالى وبرسالة الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ولا تمتنا بموت الكفر و الخسران.

أنَّ الشاعر الجزيري كان في غياهب السِّجن و في غرفةِ الدّامس، لِأن سجنه كان تحت الأرض، بناه الأمير المنصور بن أبي عامر، و سمّاه "السِّجن المطبق" [38]فأحسَّ الجزيري زنزانته قبراً الّذى يأتي فيه ملكان إلى صاحب القبر، فأنشد بيتاً:

و لكلِّ ميتٍ فتية في قبرهيلقي نكيراً عندها مع منكر[39]

اقتبس الشاعر من هذا الحديث" .... و يأتيه ملكانِ فيجلسانه فيقولانِ له. من رَّبكَ؟ فيقول: ربِّي الله......"[40]

و يظهر لنا أنَّ الجزيري أحسّ الموت في زنزانة السِّجن فلذا عبّر عن إحساسه و فكّرَ عن سؤال المنكر و النكير في القبر، و هذا من أمر عجيب أنّه سُجن بعد ذلك مرةً ثانيَّة في السِّجن، فدخل عليه بعضُ الرِّجال من السُّودان فخنقوه، فقُتل في غياهب السِّجن.

و هذا البيت يُعّدُ من شعره الزهدي، لِأنّ قلبه ملأت من الحزن الّذى أمكن فيها، و من الألم الّذى أنشب أظفاره في أفكاره، و من فقدان أولاده الّذين لهم ضرورة ظله، و هو في حالة الاعتقال، و كان معتقله مكان مهدوم، و عمارته خرابٌ، و أبراجه مسكن الغربان، و يغرد فيه الطيور و الحمام، و يهوي فيه الريح الشديد في الشتاء، و يسمع فيه الشاعر أصوات الحيوانات المفترسة، من الذئاب الذائرة، و البُبُور و الأسود الزئيرة، فأحسّ الموت، يهجم عليه و يغار، و ينزع روحه و يرجع في بدنه في كل حين من الأحيان، ففكر الشاعر عن سؤال الملكين اللّذين يأتيان في قبر الإنسان، فعبّر عن غليان قلبه المؤلم بشعره الّذى استشهد معنى إتيان الملكين من الحديث، و هذا الإحساس قد ظهر بعد مدّة قليلة في معتقله حينما خُنق في دار السِّجن الدامس.

حفظ اللسان

أنَّ الشاعر السِّجين الجزيري كان ينصح أولاده بحفظ اللسان أي من شرِّه و بوادره و حفظه عن التَّكلم بما لا يعنيهم و يضره مما يوجب الكفر و الفسوق و العصيان، و يحترسه عن الغيبة و الشتم و البهتان، كما يقول:

و احزن لسانك و احترس من لفظهو احذر بوادرُ غيِّه ثُمَّ احذر[41]

اقتبس الشاعر من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: قال الراوي قلتُ: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخوفُ ما تخافُ عليَّ؟ فأخذ بلسان نفسه، ثُمَّ قال: "هذا".[42]

يقول الباحث في تحقيق المقام أنَّ الشاعر وعظ أولاده بإحتراس اللسان و هذا واجبٌ عليه أن يُربىّ أبناءهم بتربية إسلاميّة و بنشأتها، كما قال الله تعالى " يٰا يُّهَا الّذِينَ آمَنُوا قُو اَنفُسَكُم وَ أهلِيكُم نَارَاً"[43]

و يبيّن لنا أنَّ الشاعر كما كان هو في الحبس و الاعتقال فما نسيَ أولاده وراء الجدران، أي تربيتهم لِأنّه كان يعلم أنّهم يحتاجون لمعرفة القيم الخلقيّة و الدينيّة و هي من الحاجات المهمّة الّتي نسعي إلى إشباعها عند أبناءنا حتّى يكونوا سُعداء عند الله و سلم النّاس من شرور ألسنتهم، و أن يحفظوا أعمالهم.

أنَّ بذاءة اللسان و سُوء الكلام يزعزعان السلوك الإنساني و يُحبطان فاعليته، فينبّه الشاعر إلى حقيقة أخلاقيّة تعمق إحساسنا بضرورة الجام اللسان، والّذي من شأنه أن يجعله عبداً لصاحبه فلا يتلفّظ من القول إلا أحسنه.

إنَّ الشاعر عبد الملك بن إدريس الجزيري أورد في البيت الأوّل كلمة " احزن" و متابعتها كلمة أخرى " احترس" كلاهما تدلان على الترادف المعنوي، و هو حفظ اللسان عن الغيبة و البهتان، و فحش الكلام و تنابذ السباب و الشتم و لعن البيان، و بعد ذلك كان يؤكد تأكيداً شديداً و يأتي لتأكيد أسلوب التكرار اللفظي، كما نرى بين كلمة "احذر" و "احذر" في شطر الثاني من البيت، وأكّد أيضاً تكراره بحرف " ثُمَّ" و هو تنبيه أولاده عن شرِّ اللسان و يستعدهم بحفظه و حرسه. و أمّا تكرار كلمة "احذر" أيضاً تدل على تحذير أولاده عن الكلام الّذي يكون موجب العقاب و العذاب.

لاجتناب عن الظلم و الحسد و سوء الظنِّ و الغيبة

أنَّ الشاعر الجزيري أنشد رسالة شعرية من السِّجن إلى أولاده يحثهم فيها على البِرِّ و التقوى و البعد عن مواطن الإثم و الفساد و عن الظلم و الحسد و البغض و العناد، كما يقول:

لا تظلمنَّ أحداً و لا تضمر لهحسداً فتحشر في الفريق الأخسر

لا تلفين متجسِّساً ذا غيبةمتظنِّناً يفضي بما لم يخبر[44]

يشير الشاعر في هذه الأبيات إلى بعض الأحاديث النبوية صلى الله عليه وسلم، فمنها:

" الظلم ظلمات يوم القيامة".[45]

" من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيءٍ فليتحلله منه بعد اليوم قبل أن لا يكون دينارٌ و لا درهمٌ، إن كان له عمل صالحٌ أُخذ منه بقدر مظلمته، و إن لم يكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه"[46]

ذكر الشاعر في الشطر الثاني من البيت الأول "خسران الحسد" و يشير إلى أنه يأكل الحسنات، فجمع الظلم و الحسد في بيتٍ واحدٍ، لِأنَّ الظلمَ من الأعمال الكاسبة و ينقص الحسنات في حق المظلوم، لِأنَّ الظالم في الحقيقة مجزى بوزر ظلمه، و إنّما أخذ من سيئات المظلوم تخفيفاً له و تحقيقا للعدل. و أمّا الحسد متعلق بأعمال القلوب، يحرق القلب بنعمة غيره، و هو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، ففي الحسد أيضاً نقصان الأعمال الصالحة المقبولة، فلذا جمع الشاعر في بيت واحدٍ.

و أنشد البيت الثاني و منع به الأولاد من التجسُّس و الغيبة و ظن السُّوء الفاسد، و اقتبس الشاعر و استمد معنى شعره من الأحاديث و نصح بها أبناءه أن لا يجسسوا و لا يغتبوا و لا يظنوا لِأنها من الأعمال الشنيعة القبيحة.

اليقين بكل ما سمع

نصح الشاعر أولاده أنَّ من يأتي إليهم بخبرٍ فلا ينبغي لهم أن يعملوا به أو ينشروا بكل ما سمعوا حتّى يتبيّنوا أنَّه صادقٌ أم كان من الكذبين. كما أنشد:

فكفاك من شرِّ سماعك خبرهو كفاك من خبرٍ قبول المخبر[47]

أنَّ الشاعر قد أخذ المعنى من هذا الحديث" كفى بالمرءِ كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع" [48]

و في هذا المعنى ورد الأحاديث الكثيرة منها: "ليس الخبر كالمعاينة" [49]

قد نسج الشاعر شعره من الكلمات المكررة، و نجد فيه التكرار اللفظي بين كلمة "كفاك" في الشطر الأوَّل من البيت، و كلمة "كفاك" من الشطر الثاني، و هكذا كلمة "الخبر" في الشطر الأول و "خبر" و "مخبر" في الشطر الثاني، و غرض الشاعر من التكرار التأكيد و مطلوبه تنبيه الغافل عن الشر الخبر الّذى سمعه من غير تيقنٍ.

أمّا تكرار الكلمات في الشعر هذا من الأساليب البلاغيّة استخدمها الشعراء العربيّة في العصور الماضيّة و الحديث، أمّا تكرار كلمة " الخبر" ثلاث مراتٍ في البيت يدّلُ على غرضين، الأول: تأكيد الخبر الّذى يلقي الشاعر إلى السامع و القارئ، و الثاني، لغرض التحذير و التنبيه لِأنّ من يأتي الخبر إليه فممكن أنّه صادق أم كاذبٌ في الكلام، فينبغي لسامع أن لا يعمل بهذا الخبر و الكلام قبل التحقيق.

و نجد أيضاً في تكرار كلمة "الخبر" إشارةً أخرى و هي تأكيد فكره الّذى يجول في خاطره، و معنى البيت يدور حول هذه الكلمة المكررة، فيزيد درجة التحذير و التأكيد و الانتباه لديه في حق أولادهم الصغار، و هذا فكره التربويّ الأبويّ لأولاده.

قال طرفة بن العبد البكري[50]

ستُبدي لك الأيّام ما كنت جاهلاو يأتيك بالأخبار من لم تُزوّدِ[51]

الوصية بالعلم و العمل

قد انتقل الشاعر الجزيري في أثناء قصيدته الّتي أنشدها في غياهب السِّجن إلى الوصيّة و النصيحة بعد ما استشعر عجز أبوته بسبب قيوده الَّتي تثقله و تذلّه حتّى حولته إلى إنسان معذور و مجبور لا يملك إلّا النصح باللسان، كما يقول:

و اعلم بأن العلم أرفع رتبةوأجل مكتسب وأسنى مفخر

و بضُمَّر الأقلام يبلغ أهلهاما ليس يبلغ بالجياد الضُّمّر

و العلم ليس بنافع أربابهما لم يفد عملاً وحسن تصبُّر[52]

يحثُّ الشاعر أولاده على طلب العلم و العمل به، و هو كان يظهر عليهم أن العلم بلا عملٍ يكون بلا فائدةٍ و غير مثمرة، كحمل على جملٍ، و شجر بلا ثمرٍ.

أنَّ الشاعر ينصح له و ينبهه بما قال الرسول صلى الله عليه وسلّم في فضيلة العلم و الوعيد على من لا يعمل بعلمه كما قال " مثل العالم الذى يعلّم النّاس الخير و ينسي نفسه كمثل السراج يضيء للنّاس و يحرق نفسه"[53]

نلاحظ أنَّ الشاعر يرغب أولاده في البيت الأول إلى تحصيل العلوم الدينية الإسلاميّة، كما نعرف من المعنى و المفهوم، و أورد صيغة التفضيل في ثلاث كلماتٍ ليصل إلى مطلوبه ببلاغة شعره، و هي "أرفع" و "أجل" و "أسنى" و هذه الكلمات وردتْ في فضيلة العلم و ثمرته، و هذا الأسلوب نجد أكثراً في شعره السُّجون.

و كما قلنا أنّ أسلوب التكرار نجد في شعره و هذا يدل على تربيته و تنبيهه لِأولاده لكي لا يغفل أحد منهم من نصائحه و وعظه، أنَّ كلمة "ضمر" في رأس البيت الثاني صفة لتضمير الأقلام أي بُرايتها، كلمة مكررة في الشطر الثاني، استعمل هذه الكلمة مجازاً لبُراية القلم لِأنّ أصل الكلمة وضعت لمعنى تقليل اللحم و نحيف الجسم، أمّا العلاقة بين المعنى الحقيقي و المعنى المجازي هي عند بُراية القلم نحن نقُصُّ منه و نسنُّ ريشته لطيب الكتابة، كإعداد الفُرس للفُروسيّة.

إنَّ الشاعر عبد الملك بن إدريس الجزيري بيّنَ في البيت الأوّل فضيلة العلم و شرافته و في البيت الثاني يشير إلى المحنِ و التكاليف الّتي يواجهها الطالب عند حصوله، و في البيت الآخير رفع الحجاب عن الشيء المفيد و المثمر و هو العمل بعلمه، و استمد معنى شعره و قوي بحديث سيد المرسلين الّذى ذكرنا.

الملخص

أنَّ الشاعر السِّجين عبد الملك بن إدريس الجزيري من الشعراء الّذين لهم صلة بالأمور الدينية و فكرهم التربويّة الإسلاميّة كابن حزم و ابن حمديس و أبي إسحاق الإلبيري من الأندلس.

أنشد الجزيري قصيدة طويلة في السِّجن مشتملة على مائتين و تسعة عشر بيتاً، فما خرج فيه من إطار إسلاميّ، كما تنبه الأدب الإسلامي إلى الدور الأخلاقي الّذى يجب أن يقوم به الأدب من الشعر و النثر، كما أنّه "يمثل الحياة و يصورها و يعرض على القارئ و السامع صوراً تنعكس و تبدو من مجالات العيش المختلفة و يعرض عرضاً جميلاً و مؤثراً بشتّى جوانبها و أشكالها، فتبدو فيه ملامح الكون و الحياة و أشكالها المتنوعة"[54].

و يبدو أنَّ الشاعر الجزيري قد لفت المناهج التربوية الأخلاقية في شعره السُّجون، والقيم الخلقيّة الّتي ينبغي أن يعمل بها الإنسان، و يثبت الفرد الصالح في الشؤون الاجتماعية، فلذا يقول الباحث أنّ شعره السُّجون متعلق بأدب إسلامي.

قد خاطب الشاعر خلف القضبان بأشعاره أولاده خاصةً، و وعظهم بنصائح الّتي نصح بها النبي صلى الله عليه وسلم عامّة المسلمين و المسلمات لِاصلاحهم و فلاحهم في الدارين. و اقتبس من أقواله و أفعاله ليقوي بها معنى شعره و يستدل بها في مدلوله، و يصل بها إلى غايته و مطلوبه و هو الهداية و الرشاد.

قد تطرّق الجزيري إلى تربوية في شعره السُّجون و المسؤليّة الأخلاقيّة، و دعا إلى الاهتمام بالأولاد و تربيتهم و رعايتهم، لِأنّهم يمثلون اللبنة القوية في المجتمع.

وظهر لنا عند البحث أنَّ الشاعر عبد الملك بن إدريس الجزيري من علماء الأندلس،لِأنَّ له صلة قويّة بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية صلى الله عليه وسلم، و يدُلُّ هذا على عمق علمه و فهمه، و شغفه، و حسن بيانه و بلاغته.

ذكرت الأمثال الكثيرة من شعره الّذى أنشده في غياهب السِّجن المقتبسة من الأحاديث النبوية صلى الله عليه وسلم فظهر لنا أنّ الشاعر استأثر بخيالها و أفكارها و يوضح تأثره بالثقافة الدينيّة، و العمل بسنن سيّد المرسلين.

اتجه الشاعر إلى الشعر التعليمي و التربوي حتّى يدُّلُ دلالة قاطعة على أثر المحنة و الاعتقال فيه، حيثُ لم يفكر في السِّجن إلا تربيّة أبناءهم، و هو كان لا يستطيع أن يعطيهم إلا الوعظ و النصيحة و إراءة الطريق إلى صراطٍ مستقيمٍ فقويَ معنى شعره باقتباسات الأحاديث النبوية صلى الله عليه وسلم.

حوالہ جات

  1. الفتح بن خاقان. المطمح الأنفس. ط: 1983م، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص 177
  2. نفس المصدر: ص/ 177
  3. ابن الآبار، محمد بن عبد الله. اعتاب الكُتّاب. ط: 1961م، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق، ص 198
  4. ابن بسام، على بن بسام. الذخيرة. ط 1: 1998م، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 4/ 32
  5. الندوي، أبو الحسن، علي. الأدب الإسلامي و صلته بالحياة. ط1: 1985م، مؤسسة الرسالة بيروت، ص 20
  6. عبد الملك بن إدريس. قصيدة عبد الملك بن إدريس الجزيري في الآداب و السُّنّة. ط: 1994م، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ص 57
  7. الترمذى، محمد بن عيسى. سنن الترمذى. الرقم الحديث: 2304. ط: 2009م، دار الرسالة العالميّة دمشق، ص 4/239 و ابن ماجة، محمدبن يزيد القزويني. سنن ابن ماجة. الرقم الحديث: 2363. ط: 1998م، دار الجيل بيروت، ص 4/38
  8. سنن الترمذى. الرقم الحديث: 2305. ص 4/ 239
  9. البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. الرقم الحديث: 7053. ط: 1312ه ، مطبعة الكبرى الأميرية ببولاق، 9/ 47
  10. ابن العربي، هو محمد بن عبد الله، ولد ليلة الخميس في شهر شعبان سنة 468ه و توفي في شهر ربيع الثاني سنة 543ه. كان من علماء الأندلس، سافر إلى عِدَّة الأمصار و الدول في طلب العلم و الحديث، و هو من أهل الآداب الواسعة و البراعة و الكتابة. كتب شرح الترمذي و سماه "عارضه الأحوذي" و هو حافظ لِأحاديث النبوية صلى الله عليه وسلم. (ابن بشكوال، خلف بن عبد الملك. الصلّةُ. ط 1: 1989م، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ص 3/ 856)
  11. ابن العربي، محمد بن عبد الله. عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي. 1997م، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 9/9
  12. نفس المصدر. ص 9/ 9
  13. قصيدة عبد الملك بن إدريس الجزيري في الآداب و السُّنّة. ص 63
  14. مسلم بن حجاج.صحيح مسلم.الرقم الحديث:95.ط: 1426ه،دار طيبة،الرياض،ص44 وسنن الترمذي.رقم الحديث: 2038، ص 4/51
  15. - الجوهري، إسماعيل بن حماد. الصِّحاح. ط 4: 1990م، دار العلم للملائين بيروت، 1/ 411
  16. - محمد الأمين بن عبد الله. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم. ط 1: 2009م، دار طوق النجاة بيروت. ص 2/ 453
  17. - قصيدة عبد الملك بن إدريس الجزيري في الآداب و السُّنّة. ص 58
  18. البخاري.رقم الحديث:7436،ص 9/ 127،صحيح مسلم.رقم الحديث:633،ص 284،سنن الترمذي.رقم الحديث:2727، 4/ 516
  19. - سنن الترمذي. رقم الحديث: 2728، ص 4/ 517
  20. - على بن سلطان محمد القاري.مرقاة المصابيح شرح مشكوٰة.رقم الحديث: 5655.ط1: 2001م،دار الكتب العلمية بيروت،ص10/ 320
  21. - نفس المصدر. ص 10/ 320
  22. - سورة القيامة 75: 22- 23
  23. - قصيدة عبد الملك بن إدريس الجزيري في الآداب و السُّنّة. ص 58
  24. - صحيح البخاري. رقم الحديث: 6581. ص 6/ 178 ، سنن الترمذي. ص 4/ 437
  25. - مرقاة شرح مشكوٰة. 10/ 223
  26. - نفس المصدر. 10/ 223
  27. - صحيح البخاري. رقم الحديث: 99. ص 1/ 31
  28. - سنن الترمذي. رقم الحديث: 2609. ص 4/ 436
  29. - ابن منظور، محمد بن مكرم. لسان العرب. دار صادر بيروت، ص 8/ 184
  30. - إعتاب الكتَّاب. ص 194
  31. - سورة الأحزاب 33: 38
  32. - على رضى الله عنه بن أبي طالب. ديوان علي رضي الله عنه. ط 1: 1988م، ص 53
  33. - محمد بن إدريس. ديوان الإمام الشافعي رحمة الله عليه. مكتبة ابن سينا، مصر، ص 47
  34. - يحي بن حكم الغزال من شعراء السُّجناء الأندلسية، كان ينشد الشعر في الزهد و الحكمة، وله منزلة رفيعة عند الأمراء.( الحميدي، محمد بن فتوح. جذوة المقتبس. ط 1: 2008م، دار الغرب الإسلامي، تونس،ص 554 )
  35. - الغزال، يحي بن حكم. ديوان يحي بن الحكم الغزال. ط 1: 1993م، دار الفكر المعاصر، بيروت، ص 56
  36. - قصيدة عبد الملك بن إدريس الجزيري في الآداب و السُّنة. ص 66
  37. - سنن الترمذي. رقم الحديث: 2282. ص 4/ 223
  38. - إعتاب الكُتّاب. ص 198
  39. - قصيدة عبد الملك بن إدريس الجزيري في الآداب و السُّنة. ص 58
  40. - السجستاني، سليمان بن أشعث. سنن أبي داؤد. الرقم الحديث: 4753. ط 1: 2002م، مؤسسة غراس للنشر و التوزيع كويت. و الخطيب، محمد بن عبد الله. مشكوٰة المصابيح. الرقم الحديث: 1630
  41. - قصيدة عبد الملك بن إدريس الجزيري في الآداب و السُّنة. ص 62
  42. - سنن الترمذي. الرقم الحديث: 2574. ص 4/ 412
  43. - سورة التحريم 66: 6
  44. - قصيدة عبد الملك بن إدريس الجزيري في الآداب و السُّنة. ص 64
  45. - صحيح البخاري. الرقم الحديث: 2447، ص 3/ 129؛ صحيح مسلم. الرقم الحديث: 2579، ص 1199
  46. - صحيح البخاري. الرقم الحديث: 2449، ص 3/ 130
  47. - الثعالبي، أبو منصور عبد الملك. يتيمة الدهر. ط 1: 1983م، دار الكتب العلمية،بيروت، 2/ 118
  48. - صحيح مسلم. الرقم الحديث: 5، ص 5
  49. - أحمد بن حنبل. مسند أحمد بن حنبل. ط 1: 1995، دار الحديث، القاهرة، 1/ 215
  50. - طرفة بن العبد البكري، أمَّا اسمه الأصلي هو عمرو و لُقب "طرفة" هو أشعر الشعراء بعد امرئ القيس و مرتبته ثاني مرتبةً، و لهذا ثُنِّي بمُعلقته، و قال الشعر صغيراً. وله بعد المعلقة شعر حسنٌ، و قتل و هو ابن ست و عشرين سنة. ( البغدادي، عبد القادر بن عمر. خزانة الأدب. ط 4: 1997م، مكتبة الخانجي قاهرة، ص 2/ 419
  51. - طرفة بن العبد. ديوان طرفة بن العبد. ط 2: 2000م، المؤسسة العربية بيروت، ص 17
  52. - يتيمة الدهر، 2/118
  53. - الطبراني، سليمان بن أحمد. المعجم الكبير. الرقم الحديث: 1681، مكتبة ابن تيمية، قاهرة، 2/166
  54. - محمد الرابع الحسني. الأدب الإسلامي و صلته بالحياة. ط 1: 1985م، مؤسسة الرسالة بيروت، ص 17
Loading...
Issue Details
Id Article Title Authors Vol Info Year
Id Article Title Authors Vol Info Year
Similar Articles
Loading...
Similar Article Headings
Loading...
Similar Books
Loading...
Similar Chapters
Loading...
Similar Thesis
Loading...

Similar News

Loading...