Search from the Journals, Articles, and Headings
Advanced Search (Beta)
Home > Journal of Islamic and Religious Studies > Volume 3 Issue 1 of Journal of Islamic and Religious Studies

مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين وأثرها في الاجتهاد التنزيلي |
Journal of Islamic and Religious Studies
Journal of Islamic and Religious Studies

Asian Research Index Whatsapp Chanel
Asian Research Index Whatsapp Chanel

Join our Whatsapp Channel to get regular updates.

مقدِّمة: الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم أجمعين، أمَّا بعد: لما كانت شريعة الإسلام هي خاتمة الرسالات، وهي الدِّين الذي أكمله الله وارتضاه للعالمين، وصاحب الشريعة محمد ﷺ هو خاتم الأنبياء والمرسلين، فقد كان من ضرورة ذلك اتصاف هذه الرسالة بالشمول والبقاء والمعاصَرَة، في ظلِّ ثوابت محْكَمة تجعلها صالحة للتطبيق واستيعاب ما يستجدُّ في ميادين الحياة على مَرِّ الأزمان وتبدُّل الأحوال وتباين الأشخاص، فالفقه الإسلامي من طبيعته وشأنه النمو والتطور والمرونة، وذلك سرُّ بقائه وخلوده، وصلاحيته لكل زمان ومكان، ولو كان الأصل فيه الثبات من كل وجه، والوقوف على حالة واحدة، والبقاء في صورة جامدة، لكان حاملاً في طيَّاته بذور انقضائه، وعناصر انقراضه، وهو ما لم يقع ولن يقع، لأنَّ مورده الأصيل، هو الوحي الرباني، والفقه الإسلامي هو ثمرة تلاقح الوحي المنزَلِ، المتمثِّل في القرآن والسنَّة، بالعقل البشري والفكر الإنساني في عملية الاجتهاد بمفهومه الشامل، الذي يمثِّل التفاعل المستمر لعقل الإنسان المسلم مع الوحي الإلهي، سعياً لتحقيق مقاصده، والالتزام بأحكامه، واتباع توجيهاته، فكراً وسلوكاً.

أهمية البحث: إنَّ الله سبحانه وتعالى خلق البشر على صفات متفاوتة، وإدراكات متباينة، فمنهم الذي يتأثّر بالعاطفة ويستجيب للموعظة، ومنهم العقلاني الذي يجذبه الخطاب العقلي، ومنهم من يقبلُ على الله تعالى بالترغيب وملاطفات الإحسان، ومنهم الذي لا يقبل إلا بالترهيب وسلاسل الامتحان، ومنهم صاحب الشخصية الهادئة المسالمة المنصتة، ومنهم صاحب الشخصية العنيدة المكابرة، ومنهم العالم، ومنهم الجاهل، ومنهم القوي، ومنهم الضعيف، ومما لاشك فيه أن الحكمة تقتضي مراعاة هذه الطباع، ودراسة هذا التفاوت والتباين وأثره على كافة الأصعدة ومختلف المجالات، التربوية والتعليمية والثقافية والإدارية والفقهية، ومن الضروري الاهتمام بخطاب كلّ صنف بما يناسبه، تبعاً لاختلاف الفروق الفردية بين الناس، فالنظر إلى واقع المكلَّفين ومراعاة أحوالهم والفروق الفردية بينهم يُعدُّ من الوسائل المنهجية التي لا غنى للمجتهد عن اعتبارها أثناء تنزيل الأحكام، وذلك راجعٌ إلى طبيعة مهمته التي لا تنحصر فقط في إعطاء الحكم الشرعي للمسألة المعروضة، وإنما تتمثَّل كذلك في بذل الوسع في النظر في ملابسات الواقعة والظروف والقرائن المحتفّة بها، ثم تنزيل الأحكام على هذا الأساس، فالعمل على تطبيق الأحكام الشرعية على الوقائع يحتاج إلى عمل اجتهادي مبني على فقه تطبيقي، وغير مكتفٍ بالتجريد المنطقي.

أسباب اختيار البحث: لقد اخترتُ الكتابة في هذا الموضوع للأسباب التالية:

1- أهمية هذا الموضوع في الواقع العملي، قديماً وحديثاً، وأثره الكبير في الاجتهاد التنزيلي وتحقيق مقاصد الأحكام، مما يستوجب دراسة هذا الموضوع دراسةً تأصيلية تطبيقية.

2- حاجة المكتبة الإسلامية إلى جمع شتات هذا الموضوع، ودراسة أصوله وفروعه، كلياته وجزئياته، من مصادر التشريع الإسلامي، إذ لا يوجد بحث مستقل- في حدود علمي- يحيط بجوانب الموضوع، ويجمعها في نسقٍ واحد.

إشكالية البحث: إننا نعيش في زمان ظهر فيه كثير من أدعياء الاجتهاد، الذين يقدِّمون هذا الدين للناس كأنه قالب واحد جامد، فيسيؤون من حيث يظنّون أنهم محسنون، ويضرّون أكثر مما ينفعون، والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه: هل الفقه الإسلامي يقبل التغيير والمرونة في التعامل مع الناس عندما تتغير أحوالهم وصفاتهم وقدراتهم وعاداتهم وبيئاتهم، وغير ذلك، أم لا يقبل المرونة والتغيير؟ فتحتَّم بيان المنهج الوسط الذي يتفاعل مع جميع الأماكن والأزمان والأشخاص.

إن موضوع مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين قد اعتبره جمعٌ كبير من الفقهاء في مسائل اجتهادية كثيرة من مسائل الفروع، ومع ذلك، فلا تزال تحوم حوله تساؤلات كثيرة، وتكتنف واقعه النظري والتطبيقي إشكالات عديدة، ومن هذه الإشكالات:

1-ما هي الأصول والأدلّة التي تنهض بحجية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين، وتجعل منه عروة وثقى في مقام الاستنباط وتنزيل الأحكام؟

2-هل الفروق الفردية بين المكلَّفين لها أثر عملي وواقعي في التشريع الإسلامي؟ وما هي آثاره عند الأصوليين والفقهاء؟

3-ما هي أهمية هذا الموضوع وفوائده في الاجتهاد الفقهي، استنباطاً وتنزيلاً؟

الدراسات السابقة: إنَّ موضوع مراعاة الفروق الفردية نال حظوة واسعة في العصر الراهن لدى الباحثين في المجالات التربوية والنفسية، إلَّا أنه لم يحظَ بالاهتمام المناسب الذي يوازي القيمة العلمية والعملية التي يتمتع بها الموضوع في مجال الفقه الإسلامي، فلا يكاد الباحث في قضايا الشريعة الإسلامية وأحكامها أن يظفر بدراسة مستفيضة في هذا الموضوع، سواءً ما يتعلَّق بالبيان التنظيري، أو بالعرض التطبيقي، إلا أنني عثرت على رسالة اقتربت كثيراً من هذا الموضوع، عنوانها: "مراعاة أحوال الناس في السنَّة النبوية" لعبد اللطيف مصطفى الأسطل، وهي رسالة ماجستير في الحديث الشريف وعلومه، قدّمتْ في كلية أصول الدين في الجامعة الإسلامية في غزة، 1429ه،2008م، إلا أنَّ هذه الدراسة اقتصرت على معالجة النواحي التالية:

الأولى: اقتصرتْ على الجانب التنظيري التأصيلي لمراعاة الفروق الفردية بين أفراد المكلَّفين، وأغفلت الجانب التطبيقي في الفقه وأصوله.

الثانية: اقتصرتْ هذه الدراسة على تأصيل هذا الموضوع من السنة النبوية فقط، ولم تتعرَّض لتأصيله من مصادر الشريعة الأخرى، وربما يُعذرُ صاحب هذه الدراسة بأنه رسم حدود بحثه ضمن هذا النطاق، والتزم بهذه الحدود، وبالتالي جاء هذا البحث في مسار أشمل وأعمّ، فسلَّطَ الضوء على الجوانب الأخرى لهذا الموضوع.

منهج البحث: اقتضت طبيعة البحث اتباع منهجين اثنين:

أحدهما: المنهج التأصيلي: وذلك بإقامة دراسة موضوعات البحث ومسائله على ما جاء بشأنها من نصوص شرعية في الكتاب والسنة، وعلى فهم علماء الأمة وسلفها لهذه النصوص.

الثاني: المنهج الوصفي: وذلك بضرب الأمثلة المتعددة لمراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين واستحضار هذا المعنى في لدى المجتهدين من السلف.

مع عنايتي بما يلي:

1 - الرجوع إلى المصادر الأصلية في مجال موضوع البحث.

2 - اعتماد أسلوب السهولة واليسر في طرح أفكار البحث وعرضها ومعالجة مسائله، واجتناب الإسهاب والإطالة وغموض العبارة.

3 - التزام الأمانة العلمية في العزو والاقتباس والنقل.

4 - ترقيم الآيات القرآنية وبيان سورها.

5 - تخريج الأحاديث النبوية وبيان ما ذكره أهل الشأن في درجتها، إذا لم تكن في الصحيحين أو أحدهما، فإذا كانت كذلك اكتفيت حينئذ بتخريجهما.

6 - العناية بقواعد اللغة العربية والإملاء وعلامات الترقيم.

7 - تزويد البحث بفهرس للموضوعات، وفهرس للمصادر والمراجع.

8-ذكر البيانات الكاملة لكل مصدر أو مرجع في فهرس المصادر في نهاية البحث، من حيث بيان: عنوان الكتاب، واسم مؤلفه، واسم محققه إن كان محقَّقاً، وعدد الطبعة، وتاريخها، واسم الناشر، ومكان النشر.

خطّة البحث: تمّت دراسة هذا الموضوع في ثلاثة مباحث وفق التالي:

المبحث التمهيدي: حقيقة الفروق الفردية والمراد بمراعاتها في الاجتهاد التنزيلي

المبحث الأول: مشروعية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين في الاجتهاد التنزيلي

المبحث الثاني: أثر مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين عند الأصوليين والفقهاء

الخاتمة والتوصيات.

وبعد: فهذا جهد بشري فما كان فيه من حق وصواب فمن الله وحده، وله الحمد والثناء على توفيقه، وما كان فيه من خطأ وزلل وتقصير فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله وأتوب إليه من ذلك، واللهَ أسال أن يجعلني من عباده المؤمنين الصابرين الشاكرين، وأن يرزقني إخلاص النية وصلاح العمل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

المبحث التمهيدي:

حقيقة الفروق الفردية والمراد بمراعاتها في الاجتهاد التنزيلي

ويتضمَّن المطالب التالية:

المطلب الأول: بيان المراد بالفروق الفردية

المطلب الثاني: بيان المراد بمراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين

المطلب الثالث: بيان المراد بالاجتهاد التنزيلي

المطلب الأول: بيان المراد بالفروق الفردية

تُعدُّ ظاهرة الفروقات الفردية من الظواهر العامة الشائعة بين الأفراد في شتى مجالات الحياة، وهي لا تقتصر على نوع الجنس البشري، بل نستطيع أن نلاحظها في جميع الكائنات الحية، فطالما وجدت الحياة، وجدت الفروقات الفردية، ولقد لاحظ الإنسان منذ القدم اختلاف تكوينه عن بقية الكائنات العضوية، بما يتميز عليها من قابليات أودعها الله تعالى في فطرته، كما لاحظ أن أفراد النوع الواحد يختلفون عن بعضهم البعض اختلافات واضحة فمنهم الطويل والقصير، والبدين والنحيف، والأبيض والأسود، ولا تقتصر الاختلافات على الجانب الجسمي وحده بل تمتد إلى النواحي الشخصية الأخرى، فمنهم العادي ومنهم الموهوب، ومنهم العالم ومنهم الجاهل، ومنهم الطيّب ومنهم الخبيث، ومنهم الغني ومنهم الفقير... إلخ.

فالمراد بمصطلح الفروق الفردية: "الصفات التي يتميز بها كل إنسان عن غيره من الأفراد، سواء أكانت تلك الصفة خَلْقية أو خُلُقيَّة أو عقلية أو مزاجية، أو إيمانية أو علمية أو سلوكية أو نفسية أو اجتماعية أم كانت تلك الصفة في النيَّات والغايات، طيبةً كانت أو خبيثة"[1]، ولقد وردتْ الإشارة إلى هذه الفروق وغيرها في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ومن هذه الإشارات:

1-الفروق الخَلْقية: كما في قول الله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}[2]. وفي هذا إشارة إلى الفروق الخَلْقية بين الجنسين، وكما في قوله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}[3]. ومنها: قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.[4]

2- الفروق الخُلُقية: كما في قول الله تعالى: { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً}.[5]

3-الفروق العقلية: كما في قول الله تعالى: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}[6]، وعن ابنِ مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ: «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْماً حَدِيثاً لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً»[7].

4-الفروق المزاجية: وذلك كما في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ، قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِضَبٍّ مَشْوِيٍّ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ لِيَأْكُلَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ ضَبٌّ، فَأَمْسَكَ يَدَهُ، فَقَالَ خَالِدٌ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: «لاَ، وَلَكِنَّهُ لاَ يَكُونُ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» فَأَكَلَ خَالِدٌ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَنْظُرُ[8]، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "وَفِيهِ أَنَّ الطِّبَاعَ تَخْتَلِفُ فِي النُّفُورِ عَنْ بَعْضِ الْمَأْكُولَاتِ"[9].

5-الفروق الإيمانية: كما في قول الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ}[10].

6-الفروق العلمية: كما في قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}[11].

7-الفروق السلوكية: كما في قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}[12].

8-الفروق النفسية: كما في قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}[13].

9-الفروق الاجتماعية: كما في قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً}[14].

10-الفروق في النيَّات والغايات، طيبةً كانت أو خبيثة: كما في قول الله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُوراً*وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً}[15].

وعن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال: (الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)[16].

المطلب الثاني: بيان المراد بمراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين

إنَّ الفروق الفردية منها ما هو أصلي طبيعي، رافقت الإنسان منذ ولادته ونشأته، ومنها ما هو عارض حادث مكتسب، اكتسبها الإنسان في مراحل لاحقة في حياته وتربيته من خلال الاحتكاك والتدريب والممارسة، وهذه الفروق الفردية العارضة، منها ما هو محمود، مثل: التميُّز والارتقاء في العلم والأدب والفضيلة والمروءة والشجاعة، ومنها ما هو مذموم، مثل الخُبث والفسق وقلّة المروءة وضعف الوازع الديني، فهذه الصفات تختلف قوتها وضعفها باختلاف الأشخاص.

وهنا أقول: لا أقصد بمراعاة الشريعة الإسلامية للفروق الفردية المذمومة إقرارها وقبولها بها، بل أقصد أنَّ الشريعة الإسلامية تقبل الفروق الفردية الحسنة وتقرّها، وشرَّعتْ من الأحكام ما يتناسب مع هذه الصفات وأصحابها، ترغيباً بها وتثبيتاً لها، وترفض الفروق الفردية السيئة وتنكرها، وشرَّعت من الأحكام ما يتناسب مع هذه الصفات وأصحابها، زجراً عنها وترهيباً منها، تماماً قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "تُحْدَثُ للناسِ أقضيةٌ بقَدَرِ ما أحْدَثُوا من الفُجُور"[17]. فالشريعة راعتْ الفروق الفردية بين المكلَّفين في التشريعات والأحكام، ولكن كلَّاً بما يناسبها.

والمكلَّفين جمع مكلَّف، والتكليف في اللغة، إلزام ما فيه كلفة، أي مشقة[18].

والمكلَّفون هم البالغون العقلاء الذين بلغتهم الدعوة، وشرط المكلَّف أن يكون عاقلاً فاهماً للتكليف، وبهذا يخرج من دائرة التكليف الصبي والمجنون والساهي والنائم والبهيمة؛ لعدم التكليف في حقهم[19].

مع أن الشريعة الغرَّاء ذكرت أحكاماً كثيرة تتعلق بالصغار والمجانين، مثل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وطلب الإذن في الدخول، وهذا ما دفع بعض علماء الأصول لاستبدال مصطلح "المكلَّفين" بمصطلح "العباد" في تعريف الحكم الشرعي؛ ليشمل الصغار والمجانين، فقالوا: "هو خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال العباد"[20]، ولكن جماهير العلماء ردُّوا هذا البدل، لأنَّ الأحكام المتعلَّقة بالصغار والمجانين لا ينطبق عليها خواص الحكم الشرعي، وإنما شُرِعتْ لهم من أجل التعويد والتربية، وأنَّ المخاطب بالحكم هو الولي والوصي والقيم[21].

المطلب الثالث: بيان المراد بالاجتهاد التنزيلي

الاجتهاد التنزيلي يعني: "بذل المجتهد الوسع لتنزيل حكم شرعي على محلّه، بصورةٍ يفضي فيها هذا التنزيل إلى تحقيق المقصد الشرعي من هذا الحكم"[22].

فالاجتهاد التنزيلي يتوجَّه فيه البحث إلى محلّ الحكم من حيث مناسبته أو عدم مناسبته لتطبيق الحكم المستنبَط من الدليل، وهذا يدخل عند الأصوليين تحت ما يُسمَّى بــ "تحقيق المناط"، وهكذا نجد أن دراسة محل التنـزيل، واختبار مدى توافر الشروط في المحلِّ، من الأهمية بمكان، فهي لا تقلُّ عن فقه الحكم، ذلك أن فقه الحكم دون فقه المحلّ المراد تنـزيله عليه ومدى مناسبته، قد يكون نوعاً من العبث والإساءة للحكم نفسه، قال تقي الدين السبكي: "خَاصِّيَّةَ الْمُفْتِي تَنْزِيلُ الْفِقْهِ الْكُلِّيِّ عَلَى الْمَوْضِعِ الْجُزْئِيِّ، وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى تَبَصُّرٍ زَائِدٍ عَلَى حِفْظِ الْفِقْهِ وَأَدِلَّتِهِ؛ وَلِهَذَا نَجِدُ فِي فَتَاوَى بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَا يَنْبَغِي التَّوَقُّفُ فِي التَّمَسُّكِ بِهِ فِي الْفِقْهِ، لَيْسَ لِقُصُورِ ذَلِكَ الْمُفْتِي مَعَاذَ اللَّهِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْجَوَابَ الْخَاصَّ، فَلَا يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهَا، وَهَذَا قَدْ يَأْتِي فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَوَجَدْنَاهُ بِالِامْتِحَانِ وَالتَّجْرِبَةِ فِي بَعْضِهَا لَيْسَ بِالْكَثِيرِ، وَالْكَثِيرُ أَنَّهُ مِمَّا يَتَمَسَّكُ بِهِ فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَلَا نُلْحِقُ تِلْكَ الْفَتْوَى بِالْمَذْهَبِ إلَّا بَعْدَ هَذَا التَّبَصُّرِ"[23].

ومن باب الاجتهاد التنزيلي تمَّ تفسير الكثير من المسائل التي خالف فيها الصاحبان الإمام أبو حنيفة، بأنه خلاف عصر وزمان وليس خلاف حجة وبرهان، ومن قواعد الترجيح التي قرّرها مشايخ الحنفية أنَّه في هذا النوع من الخلاف فإنه يُفتى بقول الصاحبين؛ لتغيُّر أحوال الناس[24].

ولذلك قيل: "المفتي في الوقائع لا بدَّ له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس"[25]، فالاجتهاد التنزيلي ونتائجه هو الثمرة من التشريع كلّه؛ لأنَّ التشريع ليس عملاً في فراغ، يقول الدريني في بيان أهميَّة هذا النوع من الاجتهاد: «من الواضح أن الاجتهاد في التطبيق أضحى لا يقل خطراً عن الاجتهاد في الاستنباط الفقهي المجرَّد إن لم نقل: إن الأول أعظم خطراً؛ لأنه يتعلَّق بالثمرات الواقعيَّة، والآثار العمليَّة في حياة الأمة، وهي الغاية القصوى من التشريع كلّه»[26].

وفي هذا البحث سوف نستعرض إن شاء الله تعالى بعض المسائل التي تظهر لنا وبشكل واضح مراعاة الفقهاء للفروق الفردية بين المكلَّفين قبل وأثناء تنزيل الأحكام على الوقائع، حتى يؤتي الحكم الشرعي أُكلَهُ ويحقِّق ثمرته ومقصده الذي أراده الله تعالى.

المبحث الأول:

مشروعية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين في الاجتهاد التنزيلي

ويتضمَّن المطالب التالية:

المطلب الأول: حجية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين من القرآن الكريم

المطلب الثاني: حجية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين من السنة النبوية

المطلب الثالث: حجية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين من اجتهادات الصحابة

المطلب الرابع: حجية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين من المعقول

المطلب الأول: مشروعية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين من القرآن الكريم

القرآن الكريم باعتباره المصدر التشريعي الأول في الشريعة الإسلامية، من خلال الاستقراء فإننا نجد فيه الكثير من الآيات التي تدلُّ على مشروعية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين وضرورة استحضارها في عملية الاجتهاد التنزيلي، ومن هذه الآيات على سبيل المثال لا الحصر:

1-قال الله تعالى: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً* وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً* يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً}[27].

وجه الاستدلال بالآيات: لقد دلَّت هذه الآيات الكريمات بشكل واضح وصريح على مشروعية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين أثناء الاجتهاد وتنزيل الأحكام، حيث كان حكم نساء النبي ﷺ مختلفاً عن حكم بقية النساء، في الثواب والعقاب، في بعض التشريعات والأحكام، وذلك للفروق الموجودة بين الفريقين، قال الفخر الرازي: " فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ عِظَمُ حَالِهِمْ وَعُلُوُّ مَنْزِلَتِهِمْ فِي حُصُولِ شَرْطٍ فِي تَكْلِيفِهِمْ دُونَ تَكْلِيفِ غَيْرِهِمْ؟ قُلْنَا أَمَا سَمِعْتَ: «حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ»، وَلَقَدْ كَانَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ مِنَ التَّشْدِيدَاتِ فِي التَّكْلِيفِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى غَيْرِهِ"[28]، قال الشوكاني: "وَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ تَضَاعُفَ الشَّرَفِ، وَارْتِفَاعَ الدَّرَجَاتِ يُوجِبُ لِصَاحِبِهِ إِذَا عَصَى تَضَاعُفَ الْعُقُوبَاتِ"[29].

فعلى قَدْرِ عُلُوِّ المقام يكون المَلَام، وبقدر النعمة تكون النقمة، إذ كُلَّمَا كَانَتِ النِّعَمُ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ كَانَ كُفْرَانُهَا أَعْظَمَ وَأَقْبَح، وَلَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ:

وَكَبَائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيرِ صَغَائِرُ وَصَغَائِرُ الرَّجُلِ الْكَبِيرِ كَبَائِرُ[30]

قال القرطبي: "يُضَاعَفْ لَهنَّ الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ؛ لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِنَّ وَفَضْلِ دَرَجَتِهِنَّ، وَتَقَدُّمِهِنَّ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ أَجْمَعَ، وَكَذَلِكَ بَيَّنَتِ الشَّرِيعَةُ - فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ- أَنَّهُ كُلَّمَا تَضَاعَفَتِ الْحُرُمَاتُ فَهُتِكَتْ تَضَاعَفَتِ الْعُقُوبَاتُ، وَلِذَلِكَ ضُوعِفَ حَدُّ الْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ، والثيب على البكر، وقيل: لما كان أزواج النَّبِيِّ ﷺ فِي مَهْبِطِ الْوَحْيِ وَفِي مَنْزِلِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، قَوِيَ الْأَمْرُ عَلَيْهِنَّ وَلَزِمَهُنَّ بِسَبَبِ مَكَانَتِهِنَّ أَكْثَرَ مِمَّا يَلْزَمُ غَيْرَهُنَّ، فَضُوعِفَ لَهُنَّ الْأَجْرُ وَالْعَذَابُ. وَقِيلَ، إِنَّمَا ذَلِكَ لِعِظَمِ الضَّرَرِ فِي جَرَائِمِهِنَّ بِإِيذَاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَانَتِ الْعُقُوبَةُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْجَرِيمَةِ فِي إِيذَاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"[31].

هذا ولقد ذكر الشيخ الشعراوي وجهاً آخر للفرق بين نساء النبيّ ﷺ وغيرهنَّ من النساء، فقال: "ذلك لأنهنَّ بيت النبوة وأمهات المؤمنين، وهنَّ أُسْوة لغيرهنّ من نساء المسلمين، وكلّما ارتفع مقام الإنسان في مركز الدعوة إلى الله وجب عليه أنْ يتبرأ عن الشبهة؛ لأنه سيكون أُسْوة فعل، فإنْ ضَلَّ فلن يضلّ في ذاته فقط، بل سيضلّ معه غيره، ومن هنا شدَّد الله العقوبة وضاعفها للنبي ﷺ ولزوجاته"[32].

  • وهنا لا بدَّ من التنويه بأنَّ المقصود بالفاحشة المبيّنة في هذه الآية، هي النشوز وعُقُوقِ الزَّوْجِ وَفَسَادِ عِشْرَتِهِ كما قال ابن عبَّاس[33]، وَلَا يُتوهّم أنها الزنا، لِعِصْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالتَّبْيِينِ، والزنا مِمَّا يُتَسَتَّرُ بِهِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}[34]، وكقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}[35].[36]

2-قال الله تعالى في بيان عقوبة الأَمَةِ المحصنة إذا ارتكبت الفاحشة: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}[37].

وجه الاستدلال بالآيات: قال المفسِّرون في قوله تعالى {فَإِذَا أُحْصِنَّ} يعني بالتزوّج، وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد، وقيل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} يعني بالإسلام، وهو قول عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والسدي، والأول أرجح[38].

وهاهنا إشكال: وهو أن المحصنات في قوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} أريد بها الحرائر المتزوِّجات، أو الحرائر الأبكار، وعلى الأول يجب عليهنَّ نصف الرجم وتنصيف الرجم محال، وعلى الثاني يجب عليهن خمسون جلدة، وهذا القدر واجب في زنا الأَمَة محصنةً كانت أو لم تكن، وقد علَّق ذلك في الآية بمجموع الأمرين: الإحصان والزنا.

والجواب: أنا نختار القسم الأول، ويسقط الرجم عنهن بالدليل العقلي؛ لأن الرجم لا يتنصَّف، أو الثاني، والمراد: بيان تخفيف عذابهنَّ، وذلك أنَّ حدَّ الزنا يُغلَّظ عند التزوّج، فهذه إذا زنتْ وقد تزوّجتْ فحدُّها خمسون جلدة لا يزيد عليها، فلأن يكون قبل التزوّج هذا القَدْرُ أولى[39]، وهكذا نجد أنَّ الفروق الفردية بين المكلَّفين من الأحرار والعبيد قد روعيت في تطبيق العقوبات والحدود، مما يدلُّ على أهميتها وضرورة استحضارها في ذهن المجتهد قبل تنزيل الأحكام على الوقائع.

المطلب الثاني: حجية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين من السنة النبوية

من خلال التتبّع والاستقراء للآحاديث النبوية نجد هذا المعنى حاضراً فيها، وبقوة، والذي يؤكّد على ضرورة مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين في الاجتهاد التنزيلي، هذا، ولقد ألَّف عبد اللطيف مصطفى الأسطل كتاباً بديعاً أسماه: "مراعاة أحوال الناس في السنَّة النبوية" وساق فيه جملة كبيرة من الأحاديث النبوية التي تؤكّد مشروعية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين، وقال قبل إيراد هذا الحديث: "لقد اختلفت بعض أجوبة النبي ﷺ للناس مع كون السؤال واحد، وليس في ذلك أي تعارض، بل هو من باب معرفة خصائص الناس وطبائعهم، واختيار ما يناسب أحوالهم وحاجاتهم"[40]، وفيما يلي بعض هذه الأحاديث:

1-عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رجلاً سألَ النبي ﷺ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ فَرَخَّصَ لَهُ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَسَأَلَهُ فَنَهَاهُ، فَإِذَا الَّذِي رَخَّصَ لَهُ شَيْخٌ وَالَّذِي نَهَاهُ شَابٌّ[41].

وجه الاستدلال بالحديث: لقد راعى النبي ﷺ الفروق الفردية بين الشيخ والشاب، إذا الغالب على الشيخ سكون الشهوة وأمن الفتنة، فأجاز له القُبْلَةَ أثناء الصيام، بخلاف الشاب فنهاه اهتماماً له، والتعبير بالشيخ والشاب جرى على الغالب من أحوال الشيوخ في انكسار شهوتهم، وأحوال الشباب في قوَّتِها، فلو انعكس الأمر انعكس الحكم، فقد اختلفت الفتوى والحكم باختلاف أحوال المكلَّفين، وهذا يدلُّ على مشروعية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين[42].

2- عن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي، إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلاَءَ»[43].

وجه الاستدلال بالحديث: لقد بيّنَ النبيّ ﷺ حرمة إسبال الثوب وجرِّه، إلا أنَّ هذا الحكم يختلف باختلاف الأشخاص ونيَّاتهم ومقاصدهم من جرِّ الثوب، فحكم هذا الفعل يختلف من شخصٍ لآخر، فلا بدَّ إذن من مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين قبل تنزيل الأحكام على الوقائع، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "وفي الحديث اعتبار أحوال الأشخاص في الأحكام باختلافها، وهو أصلٌ مطَّرِد غالباً"[44].

3-عن سَعْد بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَعْطَى رَهْطاً وَسَعْدٌ جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَجُلاً هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِناً، فَقَالَ: «أَوْ مُسْلِماً» فَسَكَتُّ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِناً، فَقَالَ: «أَوْ مُسْلِماً» ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: «يَا سَعْدُ إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ»[45].

وجه الاستدلال بالحديث: لقد كان النبيّ ﷺ يفرّق بين المكلَّفين في العطاء، وذلك مراعاة لتفاوت الإيمان في قلوبهم قوةً وضعفاً، فيعطي ضعيف الإيمان، ويترك القوي؛ ثقةً بديهم وصلابة إيمانهم، قال الإمام النووي: "معناه: إني أعطي ناساً مؤلَّفَةً في إيمانهم ضعف، لو لم أعطهم كفروا فيكبّهم الله في النار، وأتركُ أقواماً هم أحبّ إليَّ من الذين أعطيتهم، ولا أتركهم احتقاراً لهم ولا لنقصٍ دينهم ولا إهمالاً لجانبهم بل أكِلُهُم إلى ما جعلَ اللهُ في قلوبهم من النور والإيمان التام، وأثقُ بأنهم لا يتزلزل إيمانهم لكماله"[46].

4-عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَسٌ خَادِمُكَ، ادْعُ اللَّهَ لَهُ، قَالَ: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ، وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ»[47]، وعن عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَا عَمْرُو اشْدُدْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ، وَثِيَابَكَ، وَأْتِنِي» فَفَعَلْتُ فَجِئْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ فِيَّ الْبَصَرَ وَصَوَّبَهُ، وَقَالَ: «يَا عَمْرُو، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ وَجْهاً، فَيُسَلِّمَكَ اللهُ وَيُغْنِمَكَ، وَأَزعَبُ لَكَ مِنَ الْمَالِ زَعبَةً صَالِحَةً»[48]، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رَغْبَةً فِي الْمَالِ، إِنَّمَا أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْجِهَادِ، وَالْكَيْنُونَةِ مَعَكَ، قَالَ: "يَا عَمْرُو، نَعِمَّا بِالْمَالِ الصَّالِحِ، لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ»[49]، بينما قال لثعلبة بن حاطب حين سأله الدعاء له بكثرة المال: «وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ، قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لا تُطِيقه»[50].

وجه الاستدلال بهذه الأحاديث: لقد راعى النبيّ ﷺ الفروق الفردية بين الصحابة، حيث دعا ورغبَ بكثرة المال لأنس بن مالك ولعمرو بن العاص، بينما حذَّرَ ثعلبة بن حاطب من كثرة المال، وذلك مراعاة لحالِ كلّ واحدٍ منهم، فمنهم مَن تنفعه كثرة المال ومنهم مَن تضرّه، قال الإمام الغزالي: " كل الأسباب الدنيوية مختلطة، قد امتزج خيرها بشرِّها، فقلَّما يصفو خيرها، كالمال والأهل والولد والأقارب والجاه وسائر الأسباب، ولكن تنقسم إلى ما نفعه أكثر من ضُرِّهِ، كقدر الكفاية من المال والجاه وسائر الأسباب، وإلى ما ضره أكثر من نفعه في حق أكثر الأشخاص، كالمال الكثير والجاه الواسع، وإلى ما يكافىء ضرره نفعه، وهذه أمور تختلف بالأشخاص، فرُبَّ إنسان صالح ينتفع بالمال الصالح، وإن كَثُر فينفقه في سبيل الله ويصرفه إلى الخيرات، فهو مع هذا التوفيق نعمةٌ في حقِّه، ورُبَّ إنسانٍ يستضرّ بالقليل أيضاً، إذ لا يزال مستصغراً له، شاكياً من ربه، طالباً للزيادة عليه، فيكون ذلك مع هذا الخذلان بلاءٌ في حقه"[51].

5-وجاء في صحيح مسلم أنَّ النبي ﷺ قال لأبي ذرٍّ الغفاري محذِّراً إياه من الإمارة: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفاً، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لاَ تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلاَ تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ»[52]، بينما قال ﷺ في معرض دفاعه عن إمارة أسامة بن زيد: «وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقاً لِلْإِمَارَةِ»[53].

وجه الاستدلال بهذين الحديثين: لقد نصحَ النبيّ ﷺ أبا ذرٍّ الغفاري بالبعد عن الإمارة، وذلك بسبب ضعفه عن تحمُّل أعبائها ومسؤولياتها، فنصحه بما يتناسب مع حاله، بينما دافع عن إمارة عن أسامة بن زيد، وذكرَ بأنه أهلٌ لها، وهذا تقرير واضح لمشروعية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين في الاجتهاد التنزيلي[54]، قال القرطبي في بيان وجه الضعف عند أبو ذرٍّ رضي الله عنه: "أي ضعيف عن القيام بما يتعيَّن على الأمير من مراعاة مصالح رعيته الدنيوية والدينية، ووجه ضعفه عن ذلك: أنَّ الغالب عليه كان الزهد واحتقار الدنيا، ومَن هذا حاله لا يعتنى بمصالح الدنيا ولأموالها، اللذين بمراعاتهما تنتظم مصالح الدين ويتمّ أمره، وقد كان أبو ذرٍّ أفرطَ في الزهد في الدنيا، حتى انتهى به الحال إلى أن يفتي بتحريم الجمع للمال وإنْ أُخرجت زكاته، وكان يرى أنه الكنز الذي توعَّدَ اللهُ عليه في القرآن، فلما علِمَ النبيُّ ﷺ منه هذه الحالة، نصحه ونهاه عن الإمارة وعن ولاية مال الأيتام"[55].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكذلك كان -النبيّ ﷺ- يستعمل الرجلَ لمصلحةٍ راجحة، مع أنه قد كان يكون مع الأمير مَن هو أفضل منه في العلم والإيمان، وهكذا أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم رضي الله عنه ما زال يستعمل خالداً في حرب أهل الردّة، وفي فتوح العراق والشام، وبدَتْ منه هفوات كان له فيها تأويل، وقد ذُكِرَ له عنه أنه كان له فيها هوى، فلم يعزله من أجلها؛ بل عاتبه عليها؛ لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه، وأنَّ غيره لم يكن يقوم مقامه؛ لأن المتولِّي الكبير، إذا كان خُلُقهُ يميل إلى اللين، فينبغي أن يكون خُلُقُ نائبه يميل إلى الشدَّة؛ وإذا كان خُلُقهُ يميل إلى الشدَّة، فينبغي أن يكون خُلُقُ نائبه يميل إلى اللين؛ ليعتدل الأمر، ولهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يؤثرُ استنابة خالد؛ وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤثر عزل خالد، واستنابة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه؛ لأنَّ خالداً كان شديداً كعمر بن الخطاب، وأبا عبيدة كان ليّناً كأبي بكر؛ وكان الأصلح لكلٍّ منهما أن يولِّي مَن ولَّاه؛ ليكون أمرهُ معتدِلاً"[56]، ولقد عقدَ ابن القيّم في كتابه "إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين" فصلاً بعنوان: "تولية الرسول ﷺ الأنفع على مَن هو أفضل منه"، ولقد ذكرَ في هذا الفصل بعض الفوائد واللطائف التي تدلّ على مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين[57]، واكتفي بهذا القدر من الأحاديث النبوية للاستدلال على مشروعية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين قبل تنزيل الأحكام على الوقائع، وإلَّا فالأحاديث في هذا الصدد كثيرة.

المطلب الثالث: حجية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين من اجتهادات الصحابة

مَن يتتبّع أقوال الصحابة وأفعالهم ومنهجهم في الاجتهاد، استنباطاً وتنزيلاً، يجد الكثير من الأدلة على مراعاتهم للفروق الفردية بين المكلَّفين، وأنهم كانوا على دراية تامة وعناية فائقة في اعتبار هذا الجانب قبل تنزيل الأحكام الاجتهادية على محالّها، وسوف اقتصر في هذا المقام على ذكر بعض الأدلَّة والشواهد من فقه عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ومنهجه الاجتهادي في مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين في المسائل الاجتهادية:

1- رويَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَوْباً مَصْبُوغاً فَقَالَ: "مَا بَالُ هَذَا الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ إِنَّمَا هُوَ مَدَرٌ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يَقْتَدِي بِكُمُ النَّاسُ، وَأَنَّ جَاهِلاً لَوْ رَأَى هَذَا الثَّوْبَ لَقَالَ: طَلْحَةُ كَانَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمَصْبُوغَةَ في الإحرام، فَلَا يَلْبَسْ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ الْمَصْبُوغَةِ شَيْئاً، وَهُوَ مُحْرِمٌ[58].

وجه الاستدلال بالأثر: إنَّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إنّما نهى طلحة بن عبيد وأمثاله عن لبس الثوب المصبوغ في الإحرام؛ لكونهم أشخاصاً يُقتدى بهم، ولم ينهى جميع الناس، وإنّما خصَّ مجموعة قليلة منهم، وهم الأشخاص المقتدَى بهم، فقال: "أَيُّهَا الرَّهْطُ"، فدلَّ ذلك على مشروعية مراعاة الفروق الفردية بين أفراد المكلَّفين، قال الباجي: "وأنكره عليه لما ذكره من أنه إمامٌ يقتدِي به الناس في لبس المصبوغ، ويحكون عنه مثل هذا ولا يفرقون بينه وبين الممنوع، وهذا أصلٌ في أن الإمام المقتدَى به يلزمه أن يكفَّ عن بعض المباح المشابه للمحظور، ولا يفرِّق بينهما إلا أهل العلم؛ لئلا يقتدِي به مَن لا يعرفه، وأن يلزم غيره الكفّ عنه، ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد قال بهذا ولم يراجعه طلحة بن عبيد الله ولا أحدٌ ممن سمعه"[59]، وهذا الإنكار من عمر بن الخطاب على طلحة بن عبيد الله في لبس الثوب المصبوغ أثناء الإحرام يدلُّ على مراعاته للفروق الفردية بين المكلَّفين في الفروع والأحكام.

2- عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ: «أُخْبِرْتُ أَنَّ تَمِيماً الدَّارِيَّ رضي الله عنه رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ نَهْيِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَأَتَاهُ عُمَرُ، فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ تَمِيمٌ أَنِ اجْلِسْ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ، فَجَلَسَ عُمَرُ حَتَّى فَرَغَ تَمِيمٌ، فَقَالَ لِعُمَرَ: لِمَ ضَرَبْتَنِي؟ قَالَ: لِأَنَّكَ رَكَعْتَ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَدْ نَهَيْتُ عَنْهُمَا قَالَ: فَإِنِّي قَدْ صَلَّيْتُهَا مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَيْسَ بِي إِيَّاكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ، وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَكُمْ قَوْمٌ يُصَلُّونَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ حَتَّى يَمُرُّوا بِالسَّاعَةِ الَّتِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُصَلُّوا فِيهَا كَمَا يُصَلُّوا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: قَدْ رَأَيْنَا فُلَاناً وَفُلَاناً يُصَلُّونَ بَعْدَ الْعَصْرِ»[60].

وجه الاستدلال بالأثر: فقد نظرَ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه إلى تميم الداري نظرة اجتهادية خاصة، وحمّلَهُ من التكليف ما يليق به كقدوة حسنة للآخرين، إذ أوجب عليه ما لم يوجبه على بقية الناس، ونهاه عن الركعتين بعد العصر حتى لا يقتدِي به مَنْ لا علم عنده، خشية أن يصلّي بعد العصر أولاً ثم يستمرّ به الحال ويتمادى بعد ذلك فيصلّي في الوقت المنهي عنه، وعندما ضربه بالدرة أوضح له أنه ضربه لأنه محلٌّ اقتداءٍ من الأخرين، إذ لو كان بقية الناس مثلك يا تميم الداري في مرتبة القدوة الحسنة، يميّزون بين أوقات الكراهة وغيرها ويضبطون ذلك مثلك، لما ضربتك ونهيتك عن الصلاة في هذا الوقت، وهذا يدلُّ أيضاً على منهج عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين، حيث فرّق بين تميم الدراي وغيره من المكلَّفين، وهذا ما صرَّح به كما في رواية الإمام أحمد التي جاء فيها: "خَرَجَ عُمَرُ عَلَى النَّاسِ يَضْرِبُهُمْ عَلَى السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، حَتَّى مَرَّ بِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ، فَقَالَ: "لَا أَدَعُهُمَا، صَلَّيْتُهُمَا مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ رَسُولِ اللهِ ﷺ" فَقَالَ عُمَرُ: "إِنَّ النَّاسَ لَوْ كَانُوا كَهَيْئَتِكَ لَمْ أُبَالِ"[61].

3- عن نافع عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمس مائة، فقيل له: هو من المهاجرين فلمَ نقصْتَهُ من أربعة آلاف؟ فقال: "إنما هاجر به أبواه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه"[62].

وجه الاستدلال بالأثر: لقد أنقصَ عمر بن الخطَّاب من عطاء ابنه عمر؛ لقرابته منه، تجنّباً لتهمة المحاباة[63]، بل كان يؤخِّرُ ابنه ويقدِّم مَن هو أحبّ وأقرب إلى رسول الله ﷺ، وهذا من باب مراعاة الفروق الفردية، كما أخرج الترمذي عن عُمَرَ بن الخطَّاب، أَنَّهُ فَرَضَ لأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي ثَلاَثَةِ آلاَفٍ وَخَمْسِ مِائَةٍ، وَفَرَضَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ فِي ثَلاَثَةِ آلاَفٍ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ لأَبِيهِ: لِمَ فَضَّلْتَ أُسَامَةَ عَلَيَّ؟ فَوَاللَّهِ مَا سَبَقَنِي إِلَى مَشْهَدٍ، قَالَ: "لأَنَّ زَيْداً كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ أَبِيكَ، وَكَانَ أُسَامَةُ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ مِنْكَ، فَآثَرْتُ حُبَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى حُبِّي"[64].

المطلب الرابع: حجية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين من المعقول

إنَّ الأحكام التكليفية الاجتهادية ليست قوالب خشبية جامدة، ولكنها حيوية مرنة قابلة للتغيُّر، وتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان؛ وذلك لأن هدف هذه الأحكام تحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، والحكم قد يحقّق المصلحة الشرعية المتوخاة منه في حقّ شخصٍ معيَّن، قامت فيه بعض الصفات والأحوال، ولا يحقِّق هذه المصلحة في حقّ شخص آخر قامتْ فيه صفات وأحوال أخرى، بل قد يؤدي تنزيل هذا الحكم عليه إلى نتائج ومآلات عكسية مخالفة لمقاصد الشريعة وغاياتها، والسرّ في ذلك أنَّ حكمة الله تعالى منذ الأزل اقتضت التفاوت بين البشر في الصفات والأخلاق والطبائع والاستعدادات، فكان من الحكمة والمنطق أيضاً أن تتفاوت وتختلف الأحكام باختلاف الأشخاص، فيُنزَّل من الأحكام على كلِّ شخص ما يتناسب مع حاله، وإليك بعض النقول عن الفقهاء والعلماء التي تدلُّ على ذلك:

1-قال السرخسي: "والحكم يختلف باختلاف أحوال الناس"[65].

2-قال الجويني: "ولا يَبْعُد أن يختلف حكم الله باختلاف الأشخاص، فإنَّ الميتة محرَّمة على صاحب الرفاهية، وهى بعينها محلَّلَة على صاحب المخْمَصَة"[66].

3-قال ابن الجوزي: "ينبغي للمفتي أن يزن الأحوال كما ينبغي للطبيب أن يزن الزمان والسِّنَّ والبلد، ثم يصِف على مقدار ذلك"[67].

4-قال أبو إسحاق الشاطبي: "والمصالح والمفاسد إذا كانت راجعة إلى خطاب الشارع، وقد علمنا من خطابه أنه يتوجَّه بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات، حتى يكون الانتفاع المعيَّن مأذوناً فيه في وقت أو حال أو بحسب شخص، وغير مأذون فيه إذا كان على غير ذلك"[68].

5-قال الجلال السيوطي: "والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات"[69].

6-قال ابن عابدين: "المفتي في الوقائع لا بدَّ له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس"[70].

وهكذا نجد أنَّ منهج مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين أثناء الاجتهاد التنزيلي تنهض به الأدلَّة المعتبرة من النقل والعقل، مما يدلُّ على أصالة هذا المنهج وأهميته وضرورة مراعاته واستحضاره في ذهن المجتهد والمفتي قبل تنزيل الأحكام على الحوادث والوقائع، وذلك كي تحقّق الأحكام والفتاوى المقاصد والمصالح الشرعية المتوخاة منها بعد التطبيق والتنزيل، قال ابن القيّم: " فاوتَ الله سبحانه بين قوى الأذهان كما فاوتَ بين قوى الأبدان، فلا يَحْسُنُ في حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميع خلقهِ معرفةَ الحقّ بدليله، والجواب عن معارضه، في جميع مسائل الدين، دقيقها وجليلها؛ ولو كان كذلك لتساوت أقدام الخلائق في كونهم علماء، بل جعل سبحانه هذا عالماً، وهذا متعلِّماً، وهذا متَّبِعاً للعالِم مؤتَمَّاً به، بمنزلة المأموم مع الإمام، والتابع مع المتبوع"[71].

المبحث الثاني:

أثر مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين عند الأصوليين والفقهاء

ويتضمَّن المطالب التالية:

المطلب الأول: المستند الأصولي لمراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين في الاجتهاد التنزيلي

المطلب الثاني: أثر مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين عند الأصوليين

المطلب الثالث: أثر مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين عند الفقهاء

المطلب الأول: المستند الأصولي لمراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين في الاجتهاد التنزيلي

ذكر الإمام الشاطبي أنَّ اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالِّها على وجهين:

أحدهما: الاقتضاء الأصلي: قبل طروء العوارض، وهو الواقع على المحلِّ مجرَّداً عن التوابع والإضافات، كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة وسَنِّ النكاح وما أشبه ذلك.

والثاني: الاقتضاء التبعي: وهو الواقع على المحلِّ مع اعتبار التوابع والإضافات، كالحكم بإباحة النكاح لمَن لا أرَبَ له في النساء، ووجوبه على مَن خشي العَنَت، وكراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو، وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام، أو لمن يدافعه الأخبثان، وبالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي[72].

فالحكم التكليفي يتَّسم بالتجريد والعموم، أما كونه متَّسِماً بالتجريد؛ فلأنه يقع في الذهن متعلِّقاً بمدركه، وأما كونه عاماً؛ فلأنه لا يختص بواقعة معيّنة، أو شخص معيَّن بالذات، بل يشمل المخاطبين على الإطلاق والعموم، فالحكم التكليفي قبل مرحلة تطبيقه عام مجرَّد، وإنما يتم تطبيقه على جزئياته بعد النظر في تحقق مناطه في الوقائع، حتى إذا تحقَّق المجتهد أنَّ المناط مكتمل في الواقعة المعيّنة أمكنه بعده أن يطبِّق الحكم على عين تلك الواقعة، ليكون الحكم التطبيقي بذلك مساوياً للحكم التكليفي[73].

وهكذا نجد أنَّ المجتهد في "تحقيق المناط الخاص" يراعي الظروف المحتفَّة بالواقعة أيما مراعاة، ويترجم ذلك من خلال القيود التي يضيفها إلى الحكم العام، حتى يكون بعد التطبيق موصلاً إلى غايته وحكمته التي شُرِعَ من أجلها ابتداءً، ولا يكتفي بمجرَّد انطباق المناط العام عليها؛ لأنَّ الظروف التي احتفَّتْ بها قد جعلت لها وضعاً خاصاً تنفرد به عن سائر نظيراتها، الأمر الذي يستدعي التخصيص والتقييد، فتحقيق المناط الخاص يحتِّم على المجتهد ملاحظة الأحوال الخاصة بالمكلَّفين، ثم الاجتهاد في تنزيل الحكم الذي يتناسب مع هذه الأحوال.

وبالتالي فإنَّ ملاحظة المجتهد للفروق الفردية بين المكلَّفين قبل تنزيل الأحكام على الوقائع يدخلُ عند علماء الأصول فيما يسمُّونه بـ: "تحقيق المناط الخاص"، فالنظر في أحوال المكلَّفين ومراعاة ما بينهم من فروق شرط ضروري للاجتهاد عموماً، وللتمكُّن من اعتبار المآلات خصوصاً، وبيان ذلك أنَّ المجتهد أثناء نزوعه إلى تنزيل الأحكام لا بدَّ أن يتّجه نظره إلى المكلَّفين، وأن يستحضر ما بينهم من تفاوت في أحوالهم الخاصة، "وذلك أنَّ الأشخاص يتغايرون، كما هو معلوم، من جوانب شتى: يختلفون بدنياً ما بين القوة والضعف، وعقلياً ما بين القدرة على الفهم وعدمها، ونفسياً ما بين قوة التحمُّل وضعفها، وقلبياً ما بين قوة الإيمان وضعفه، وخلقياً وطبعياً ما بين الحسن والسوء والتمام والنقص، كما يختلفون من حيث مقاصدهم وحاجة غيرهم إليهم، ومقام بعضهم من بعض، إلى غير ذلك من التباينات الذاتية والحالية والاجتماعية"[74].

ولقد ذكر الشاطبي أنَّ تحقيق المناط على قسمين:

"الأول-تحقيق المناط العام-: نظرٌ في تعيين المناط من حيث هو لمكلَّفٍ ما، فإذا نظر المجتهد في العدالة مثلاً، ووجد هذا الشخص متَّصِفاً بها على حسب ما ظهر له، أوقع عليه ما يقتضيه النَّصُّ من التكاليف المنوطة بالعدول، من الشهادات والانتصاب للولايات العامة أو الخاصة وهكذا، إذا نظر في الأوامر والنواهي الندبية والأمور الإباحية، ووجدَ المكلَّفين والمخاطَبين على الجملة، أوقع عليهم أحكام تلك النصوص كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرَّمات، من غير التفات إلى شيءٍ غير القَبُول المشروط بالتهيئة الظاهرة، فالمكلَّفون كلُّهم في أحكام تلك النصوص على سواءٍ في هذا النظر.

أما الثاني-تحقيق المناط الخاص-: وهو النظر الخاص، فأعلى من هذا وأدقّ، وهو في الحقيقة ناشىء عن نتيجة التقوى، المذكورة في قوله تعالى:{إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً}[75].

وعلى الجملة فتحقيق المناط الخاص: نظرٌ في كلِّ مكلَّف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، بحيث يتعرَّف منه مداخل الشيطان ومداخل الهوى، والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلَّف مقيَّدةً بقيود التحرُّز من تلك المداخل، هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتِم وغيره، ويختص غير المنحتِم بوجه آخر: وهو النظر فيما يصلح بكلِّ مكلَّف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحالٍ دون حال، وشخصٍ دون شخص، إذ النفوس ليست في قَبول الأعمال الخاصة على وِزانٍ واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك، فرُبَّ عملٍ صالحٍ يَدخلُ بسببه على رجلٍ ضرر أو فتْرَة، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر، ورُبَّ عملٍ يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر، ويكون بريئاً من ذلك في بعض الأعمال دون بعض، فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رُزِقَ نوراً يعرف به النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها وقوة تحمُّلِها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحملُ على كلِّ نفسٍ من أحكام النصوص ما يليق بها، بناءً على أنَّ ذلك هو المقصود الشرعي في تلقِّي التكاليف، فكأنَّه يخصُّ عموم المكلَّفين والتكاليف بهذا التحقيق"[76].

ويُفهَم من هذا البيان حقيقة الفرق بين تحقيق المناط العام والخاص، أنَّ المجتهد في التحقيق الخاص يأخذ بالاعتبار والحسبان الطبيعة الخاصة للجزئيات عند تنزيل الأحكام التكليفية عليها، سواءٌ أكانت تلك الأحكام مما طلبه الشارع طلباً جازماً، وهو ما عبَّرَ عنه الشاطبي بقوله: "التكليف المنحتِم"، أم كانت مما طلبه الشارع طلباً غير جازم، وهو ما قصده بقوله: "غير المنحتِم"، فجميع الأحكام التكليفية تتطلب أثناء تنزيلها على الوقائع والأفراد مراعاة خصائص المكلَّف، والصفات المركوزة في النفس البشرية، ومن هنا يجدر بالمجتهد أن يكون عالماً بواقع المكلَّفين، وأن يكون محيطاً بمداخل الشيطان، ورغائب النفس، ومدى قوة الوازع الديني أو ضعفه في أحوال المكلَّفين، حتى يحترز أثناء تنزيله للحكم الشرعي عليهم من أن يفتح الباب لسبُل الشيطان، ورغائب النفس وشهواتها، فمعرفة أحوال المكلَّفين من أنواع التحقيق الخاص الذي يتميز بخصوصيات نفسية، ترجع إلى طبيعة النفس الإنسانية في تحملها للتكاليف، وسلوكها في ذاك، وتعرضها للأهواء، ومداخل الشيطان، والرياء والعجب، والإقدام والإحجام، والصبر والملل، وكل الأعراض الطارئة على الإنسان، وتبعاً لذلك، أضحى لزاماً على من أراد تنزيل الأحكام على الوقائع والأشخاص أن يكون مجتهداً ربانياً، أو حكيماً، يعرف النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها وقوة تحمُّلِها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحملُ على كلِّ نفسٍ من أحكام النصوص ما يليق بها[77].

ونضرب فيما يلي مثالاً على تحقيق المناط الخاص من خلال مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين وبيان أثر هذه المراعاة في الاجتهاد التنزيلي:

  • فقد روي أنَّه جاء رجلٌ إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: لمن قتل مؤمناً توبة؟ قال: لا، إلا النار، فلما ذهب قال له جلساؤه : ما هكذا كنت تفتينا ، كنت تفتينا أن لمن قتلَ مؤمناً توبةً مقبولة، فما بال اليوم؟ قال: إني أحسبه رجلاً مُغْضَبَاً يريدُ أن يقتل مؤمناً، قال: فبعثوا في أَثَرِهِ فوجدوه كذلك[78]، وفي رواية أخرى: أنَّ ابن عباس رضي الله عنهما سُئِلَ عمن قَتَلَ أله توبة؟ فقال مرةً: لا، وقال مرَّةً: نعم، فقيل له في ذلك، فقال: رأيتُ في عيني الأول أنه يقصد القتل فَقَمَعْته، وكان الثاني صاحبُ واقعةٍ يطلبُ المخرَج[79].

لقد راعى ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الواقعة المناط الخاص أيما مراعاة، من حيث التفاته إلى حال هذا الرجل وظرفه والهيئة التي جاء فيها، فأدرك ببصيرته الثاقبة كما يقول الدكتور الدريني، خصوص هذا العارض، الذي يعترض الشخص المستفتي، فنشأ عنه مناط أو دليل يستدعي حكماً آخر، يختلف عن مناط حكم التوبة في الأصل، ذلك لأنَّ ظاهرة الغضب هذه تنِمُّ عن انطواء نفسه على نية الإقدام على اقتراف جريمة القتل في حق مؤمن، فرأى ابن عباس باجتهاده أنَّ توبة مثل هذا الشخص في خصوصية حاله وفعله، لا يتحقق فيها مناط التوبة النصوح الصادقة، التي تحمل صاحبها على الإنابة إلى الله تعالى؛ لأنه ينوي الإقدام على الإجرام، ويبحث في الوقت نفسه عن المخْلَصِ مسبقاً، فأجابه بما اقتضاه الدليل الناشئ عن حاله اقتضاءً تبعيَّاً، يختلف عن اقتضاء الدليل الأصلي لحكم التوبة النصوح، لعلَّ ذلك يصدُّه عن مآل الإجرام، فالموضوع هو حكم التوبة، فاختلف حكم الإفتاء به، تبعاً لاختلاف حال كل مكلَّف[80].

يقول الدكتور فتحي الدريني: "ألا ترى، أن المفتي لو أجاب السائل الأول بما أجاب به الثاني، عن حكم التوبة، لكان المآل جرأة الأول على الإجرام، وهو مآل محرَّم غير مقصودٍ للشارع قطعاً، وهذا الاجتهاد لا يصح، بل لا يجوز، لمجافاته للعدل، ومقصد الشارع، وهذا الأصل العظيم ليس مقصوراً تطبيقه على الحالات الشخصية أو الفردية الخاصة، بل هو شاملٌ بحكمه كلَّ طائفة أو جماعة، أو أهل بلد أو شعب أو أمة، إذا اعترى كلَّاً منها حالٌ، أو طرأ عليه عارضٌ واحد معيَّنٌ، وفي هذا مجال خصيب للاجتهاد والاختلاف، منشؤه تفاوت المدارك في تقدير العوارض والأحوال"[81]، ومن خلال ما تقدَّم يتَّضح أنَّ النظر في تحقيق المناط هو الذي يعوَّل عليه في سبيل تفعيل أحكام الشريعة، وإبرازها في حيّز الوجود والواقع، وفي عالم المشاهدة والحس، فهو حلقة الوصل التي تربط بين النص والواقع، ومن خلاله يتمكَّن المجتهد من تنزيل مقررات الشريعة العامة وأحكامها الكلّية على محالِّها المناسبة.

المطلب الثاني: أثر مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين عند الأصوليين

تبيَّن مما سبق أنَّ مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين في الاجتهاد التنزيلي تستند إلى مبادئ ومعالِم أصولية، فهي تندرج تحت المسلَك الأصولي المسمَّى بــ "تحقيق المناط الخاص"، وهذا بدوره أثّر في تقرير بعض القواعد والمسائل الأصولية، وللتوضيح والبيان أذكر فيما يلي مسألة أصولية واحدة لإظهار أثر مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين عند الأصوليين:

  • أثر مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين في توجيه العمل بالعزيمة والرخصة:

*العزيمة في اللغة: تعني الإرادة المؤكَّدة[82]، وفي الاصطلاح: هي ما شرعه الله أصالةً من الأحكام العامة التي لا تختصّ بحالٍ دون حالٍ، ولا بمكلَّف دون مكلَّف[83].

*والرخصة في اللغة مشتقة من الترخُّص، والرخص هو اللين، فهي من حيث الجملة من السهولة المسامحة واللين[84]، وفي الاصطلاح: هي ما شرعه الله من الأحكام تخفيفاً على المكلَّف في حالاتٍ خاصَّة تقتضي هذا التخفيف[85].

ويظهر أثر مراعاة الفروق الفردية في هذه المسألة، أنَّ مَن كان في موضع القدوة، كان الأفضل والأحرى في حقِّه أن يكون عاملاً بالعزيمة، ويفتي العوام من الناس بالرخصة، فالشخص المقتدَى به ملحوظ ومراقبٌ من قبَل الناس، الذي ينظرون إليه دائماً نظرة التميّز والتفوق، وأنَّ له قصب السبق في مجال التحلِّي بالفضائل والتخلِّي عن الرذائل، لأجل هذا كلِّهِ ينبغي أن يكون سلوكه وفعله متناسقاً ومتناسباً مع هذه المرتبة، فيكون دائماً في الصفّ الأول، ولا يُقبَل منه أن يكون في مؤخرة القوم، ولهذا يجب على المقتدَى به بعض التكاليف والأحكام التي لا يُقال بوجوبها على غيره من عامة الناس، ولهذا جاء خطاب الله تعالى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: {فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[86]. أي أُولو الجِدِّ والحزم والصَّبْر والثَّبَات، ولقد أفرد الشاطبي في الموافقات فصلاً تحت عنوان: (قَدْ يَسُوغُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يُحَمِّلَ نَفْسَهُ مِنَ التَّكْلِيفِ مَا هُوَ فَوْقَ الْوَسَطِ)[87]، والأدلَّة على مشروعية هذا المسلك كثيرة، نذكر منها:

1- عَنْ نَافِعِ بْنِ سَرْجِسَ، قَالَ: عُدْنَا أَبَا وَاقِدٍ الْبَكْرِيَّ، فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَسَمِعتُهُ يَقُولُ: "كَانَ النَّبِيّ ﷺ أَخَفَّ النَّاسِ صَلَاةً عَلَى النَّاسِ، وَأَطْوَلَ النَّاسِ صَلَاةً لِنَفْسِهِ"[88].

وجه الاستدلال بالحديث: دلالة هذا الحديث واضحة، حيث كان النبي ﷺ في صلاته لنفسه يأخذ بالعزيمة، وهي تطويل الصلاة، وعندما يكون إماماً في الناس يأخذ بالرخصة، وهي التخفيف مع التمام، فقد كان يأخذ بالعزيمة ليتناسب ذلك مع المقام الذي أكرمه الله تعالى به، والنِّعَم التي أسبغها عليه، فكان في مرتبة تفوق مرتبة غيره من البشر، إذ بوَّأه منصب القدوة الحسنة للبشرية جمعاء، وفي هذا المعنى تروي لنا السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ له: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْداً شَكُوراً، فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِساً، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ»[89].

2-عن جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ أَبَاهُ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَأْكُلُ ذِرَاعاً يَحْتَزُّ مِنْهَا، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَقَامَ، فَطَرَحَ السِّكِّينَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ»[90].

وجه الاستدلال بالحديث: أنَّ النبي ﷺ أَخَذَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِالْعَزِيمَةِ، حيث قَدَّمَ الصَّلَاةَ عَلَى الطَّعَامِ، وَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالرُّخْصَةِ، وهي تقديم الطعام على الصلاة، لِأَنَّ غيره لَا يَقْوَى عَلَى مُدَافَعَةِ الشَّهْوَةِ قُوَّتُهُ ﷺ، وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟[91].

3- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلاً شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه وَالنَّبِيُّ ﷺ جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، غَضِبْتَ وَقُمْتَ، قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ»[92].

وجه الاستدلال بالحديث: إنَّ النبي ﷺ غضبَ من ردِّ أبي بكر؛ لأنَّه من الخواصّ المقتدَى بهم، وكان الأولى به الأخذ بالعزيمة من الصبر وعدم الانتصار للنفس، وهذا هو الْكَمَالَ الْمُنَاسِبَ لِمَرْتَبَتِهِ مِنَ الصِّدِّيقِيَّةِ، مع أنَّ الأخذ بالرخصة جائز في هذا المقام ولكنه من رتبة العوام، فدلَّ ذلك على أنَّ العمل بالعزيمة هو الأليقُ في حقِّ الخواص الذين يُقتدَى بهم[93].

4-عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَر: «يَعْمَلُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِالشَّيْءِ لَا يَعْمَلُ بِهِ فِي النَّاسِ»[94].

5-قال رويم بْن أَحْمَد[95]: "مِنْ حِكَمِ الْحَكِيمِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى إِخْوَانِهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَيُضَيِّقَ عَلَى نَفْسِهِ فِيهَا، فَإِنَّ التَّوْسِعَةَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُ الْعِلْمِ، وَالتَّضْيِيقُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حُكْمِ الْوَرَعِ"[96]، وعلَّقَ الشنقيطي[97]على هذا: "قلت: أدركتُ والدي رحمه الله تعالى جارياً على هذا السَّنن في عباداته، آخذاً على نفسه بالتضييق، لا يترخَّص في شيءٍ منها، بل يعمل دائماً بالأشقِّ الأحْمَز، ويفتي الناس دائماً بما فيه لهم رخصة، مخافة أن يتكاسلوا عن العمل بالأشق، فيتركوا العمل رأساً"[98].

6- رويَ عن أُخْتُ بِشْرٍ الْحَافِيِّ أنها جاءت إلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وسألته: "إنَّا نَغْزِلُ عَلَى سُطُوحِنَا بِشُعْلَةِ الْمَلِكِ، هَلْ يَجُوزُ لَنَا الْغَزْلُ فِي شُعَاعِهَا، وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْنَا الْمَشَاعِلُ الظَّاهِرِيَّةُ، فَقَالَ مَنْ أَنْتِ عَافَاك اللَّهُ؟ قَالَتْ: أُخْتُ بِشْرٍ الْحَافِيِّ، فَبَكَى الإمام أَحْمَدُ، وَقَالَ: مِنْ بَيْتِكُمْ يَخْرُجُ الْوَرَعُ الصَّادِقُ، لَا تَغْزِلِي فِي شُعَاعِهَا"[99]، فقد نظرَ إلى سؤالها نظرةً خاصة، وأفتاها بما يقتضيه حالها، بينما هذا الجواب لا يليق بحال عامة الناس، وهكذا نجد أنَّ حكم العمل بالرخصة والعزيمة يختلف باختلاف الأشخاص، وهذا النظر مبني على مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين، فمَن كان في موضع القدوة كان العمل بالعزيمة أفضل في حقِّهِ، بخلاف غيره من عامة الناس.

المطلب الثالث: أثر مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين عند الفقهاء

إنَّ جوهر مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين يظهر بشكل واضح وجلي في منهج الفقهاء عند الاجتهاد التنزيلي، ومن خلال الاستقراء للكثير من الفروع والمسائل الفقهية نلاحظ أنها بُنيت أساساً على مراعاة الفروق الفردية بين الأشخاص، حيث يختلف الحكم الفقهي عند التنزيل باختلاف الأفراد، ولزيادة التوضيح أسوق المسألة التالية على سبيل المثال لا الحصر، إذا المسائل والشواهد الفقهية في هذا الصدد كثيرة، يضيق المقام عن استقصائها وسردها:

*مسألة التكييف الفقهي لحكم الزواج:

إن التكييف الفقهي لحكم الزواج في الإسلام تمَّ تفصيله وتفريعه بناء على مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين، فحكم الزواج يختلف باختلاف الأشخاص، وبالتالي قد تعرض له سائر الأحكام التكليفية، مراعاة لحال كلّ شخص على حِدا:

* فقد يكون الزواج فرضاً: وذلك في حق الشخص الذي تيقَّن الوقوع في الزنا لو لم يتزوّج، وكان قادراً على نفقات الزواج من مهر ونفقة الزوجة، وحقوق الزواج الشرعية، ولم يستطع الاحتراز عن الوقوع في الفاحشة بالصوم ونحوه؛ لأنه يلزمه إعفاف نفسه وصونها عن الحرام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وطريقه الزواج، ولا فرق بين الفرضية والوجوب عند الجمهور، ورأى الحنفية: أن الزواج واجب إذا خاف المرء الوقوع في الفاحشة بعدم الزواج خوفاً دون اليقين، وكان قادراً على مؤن الزواج، من مهر ونفقة، ولا يخاف ظلم المرأة ولا التقصير في حقها.

* وقد يكون الزواج حراماً: وذلك بالنسبة للشخص الذي تيقَّن ظلم المرأة إذا تزوّج، بأن كان عاجزاً عن تكاليف الزواج، أو لا يعدِل إن تزوَّج بزوجةٍ أخرى؛ لأن ما أدى إلى الحرام فهو حرام.

* وقد يكون الزواج مكروهاً: وذلك في حقِّ الشخص الذي يخاف الوقوع في الجور والضرر خوفاً لا يصل إلى مرتبة اليقين إن تزوّج، لعجزه عن الإنفاق، أو إساءة العشرة، أو فتور الرغبة في النساء، وتكون الكراهة عند الحنفية تحريمية أو تنزيهية بحسب قوة الخوف وضعفه، ويكره عند الشافعية لمن به علَّة كهرمٍ أو مرضٍ دائم أو تعنين دائم، أو كان ممسوحاً.

* وقد يكون الزواج مندوباً: وذلك إذا كان الشخص معتدل المزاج، بحيث لا يخشى الوقوع في الزنا إن لم يتزوّج، ولا يخشى أن يظلم زوجته إن تزوّج، وهذه الحالة هي الغالبة عند أكثر الناس، وهذا عند جمهور الفقهاء، وقال الشافعية: إن الزواج في هذه الحالة مباح، يجوز فعله وتركه[100].

والمسائل الواردة في باب مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين في الاجتهاد التنزيلي كثيرة جداً، نذكر منها:

1- قال العزّ بن عبد السلام:

"لو خُطِبَ إلى الولي إحدى ابنتيه، فهل يتخيَّر في تزويج أيتهما شاء أو يبدأ بإحداهما؟

الجواب: "إن تساويا في الصلاح والتَّوقانِ إلى النكاح تخيَّر بينهما، وقد يُقْرِع، وإن تساويا في الصلاح واختلفا في التوقان قُدِّمَ أتوقهما، وإن خفَّ توقان الصالحة وزاد توقان الطالحة، ففي هذا نظر واحتمال، والذي أراه: تقديم الطالحة درءاً لما يُتوقَّع من فجورها، وأما الصالحة فَيَزَعُهَا صلاحُهَا عن الفجور، وقد كان ﷺ يُعطي الرجلَ وغيرُهُ أحبُّ إليه منه؛ خيفة أن يُكَبَّ في النَّار على وجهه؛ لأنَّ تُقَى المتَّقي يَزَعُهُ عن العصيان، وفجورُ الفاجر يوقعه في الإثم والعدوان"[101].

2- قال ابن النقيب الشافعي في بيان ترتيب مَن هو أحقّ الناس في الإمامة:

" أولى الناسِ بالإمامةِ الأفقهُ، ثمَّ الأقرأُ، ثمَّ الأورعُ، ثمَّ الأقدمُ هجرةً وولدُهُ، ثمَّ الأسنُّ في الإسلامِ، ثمَّ النسيبُ، ثمَّ الأحسنُ سيرةً، ثمَّ الأحسنُ ذِكْراً، ثمَّ الأنظفُ بدناً وثوباً، ثمَّ الأحسنُ صوتاً، ثمَّ الأحسنُ صورةً، فمتى وُجدَ واحدٌ منْ هؤلاءِ قُدِّمَ، وإن اجتمعوا أوْ بعضُهم رُتِّبوا هكذا، فإن استويا وتشاحّا أُقرعَ".

وإمامُ المسجدِ وساكنُ البيتِ ولوْ بإجارةٍ مقدَّمانِ على الأفقهِ وما بعدَهُ، ولهما تقديمُ منْ أرادا. والسلطانُ الأعظم، والأعلى فالأعلى منَ القضاةِ والولاةِ، يُقدَّمونَ على الساكنِ وإمامِ المسجدِ وغيرهما"[102].

ومن خلال ما تقدَّم نجد أنَّ مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين في الاجتهاد التنزيلي أمرٌ تشهد له أصول الشريعة وقواعدها العامة، ولقد سار الأصوليون والفقهاء على هذا المنهج، ولذا ينبغي للمجتهد والمفتي أن يستحضر هذا المعنى ويحرص على المنهج عند تنزيل الأحكام على محالّها ووقائعها، فسلامة التطبيق والتنزيل تسير جنباً إلى جنب وبالتوازي مع سلامة الاستنباط.

الخاتمة والتوصيات:

في نهاية مطاف هذا البحث لا بدَّ من تدوين بعض النتائج التي خلُصَت إليها الدراسة، وتقديم بعض التوصيات المتعلّقة بموضوع البحث:

1- الفروق الفردية تعني مجموعة من الصفات التي يتميز بها كل إنسان عن غيره من الأفراد، وهذه الصفات تؤثّر في سلوك هذا الشخص وتوجهاته الباطنة والظاهرة.

2-ضرورة النظر بعين الاعتبار للفروق الفردية بين المكلَّفين أثناء الاجتهاد التنزيلي، ولا بدَّ من استحضار هذا المعنى في ذهن المجتهد والقاضي والمفتي؛ وذلك لتحقيق المقاصد الشرعية المتوخاة من الأحكام.

3-مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين في عملية الاجتهاد بمفهومه الواسع ليست منهجاً مبتدعاً، ولكنها عملية وطريقة علمية تنهض بحجيتها الأدلة والأصول الشرعية المعتبرة.

4-الحكم الشرعي ليس قالباً نمطياً جامداً، وإنما فيه من المرونة والواقعية ما يجعله يتكيَّف مع كلّ شخص وزمان ومكان، وهذا سرّ حيوية الفقه الإسلامي وقابليته للتطور والعطاء وفق الظروف والمعطيات، فالحكم قد يختلف من شخص لآخر لاختلافهما في بعض الصفات والمزايا.

5-لا يكفي أن يكون المجتهد صاحب أهلية لاستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها، بل لا بدَّ أن يكون متمرّساً بمعرفة الواقع وطبائع الأشخاص وأنواع المكلَّفين، ليتمكَّن من تنزيل الأحكام الشرعية على محالّها المناسبة.

6-إن دراسة الفروق الفردية أخذت حيّزاً واسعاً في الدراسات النفسية والتربوية، تنظيراً وتطبيقاً، ولكن الدراسات في هذا الموضوع واستجلاء أثره ودوره في الفقه الإسلامي تكاد تكون معدومة، ولذا فإنني أوصي طلبة الدراسات العليا في كليات الشريعة والدراسات الإسلامية بالاهتمام في هذا الموضوع وبذل الجهود للكشف عن ملامحه ومظاهره وآثاره في الفقه الإسلامي، وذلك لما له من أهمية من الناحية العملية, والله تعالى أعلم.

This work is licensed under a Creative Commons Attribution 4.0 International License.

 

 

حوالہ جات

  1. == الهوامش(References) == الدكتورة رجاء أبو علَّام والدكتورة نادية شريف، الفروق الفردية وتطبيقاتها التربوية، ص:25، بتصرُّف. Dr. Raja’ Abu ‘Allam, Dr. Nadiyah Sharif, Al Furuwq al Fardiyyah w Taṭbiqatuha al Tarbawiyyah, p:25.
  2. سورة آل عمران: 36 Surah Āl ‘Imran; 36
  3. سورة الأنعام:50 Surah Al An‘ām; 50
  4. سورة البقرة:247 Surah Al Baqarah; 247
  5. سورة آل عمران: 75 Surah Āl ‘Imrān; 75
  6. سورة البقرة: 269 Surah al Baqarah; 269
  7. أخرجه مسلم، بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْحَدِيثِ بِكُلِّ مَا سَمِعَ، 1:11۔ Ṣaḥiḥ Muslim, 1:11.
  8. أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب الشِّواء، رقم الحديث:5400، وأخرجه مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب إباحة الضّبِّ، رقم الحديث:1945، واللفظ للبخاري . Ṣaḥiḥ Bukhari, Ḥadith: 5400, Ṣaḥiḥ Muslim Ḥadith:1945.
  9. العسقلاني، ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري، 9:667 . Al ‘Asqalani, Ḥafiz Ibn Ḥajar, Fatḥ al Bari, 9:667.
  10. سورة السجدة:18 Surah al Sajdah; 18
  11. سورة الزمر:9 Surah al Zumar; 9
  12. سورة فاطر:32 Surah Fatir; 32
  13. سورة الأنعام: 125 Surah al An‘ām; 125
  14. سورة الزخرف:32 Surah al Zukhruf; 32
  15. سورة الإسراء:18-19 Surah al Isra’;18-19
  16. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية الحسنة ولكل امرئ ما نوى، رقم الحديث:54،1:30، وأخرجه مسلم، كتاب الإمارة في باب قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ. رقم الحديث:5036، 6:48۔ Ṣaḥiḥ Bukhari, Ḥadith: 54, 1:30, Ṣaḥiḥ Muslim, Ḥadith:5036, 6:48.
  17. ابن الأزرق، بدائع السلك في طبائع الملك، 1:61، الاعتصام للشاطبي 1:133. Ibn al A’rzuq, Bada’i‘ al Salik fi Ṭaba’i‘ al Malik, 1:61, Al I‘taṣam, Shaṭibi, 1:133.
  18. ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، 9:307 . Ibn Maẓuwr, Muḥammad bin Mukarram, Lisan al ‘Arab, 9:307.
  19. الإمام الغزالي، المستصفى من علم الأصول، 1:117 . Imam Ghazali, Al Mustaṣfa min ‘Ilm al Uṣuwl, 1:117.
  20. المصدر السابق نفس الجزء والصفحة . Ibid.
  21. الدكتور وهبة الزحيلي، الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، 1:290 . Dr. Wahbah al Zuḥyli, Al Wajiyz fi Uṣuwl al Fiqh al Islami, 1:290.
  22. د۔ رقية عبد الرزاق، ضوابط الاجتهاد التنزيلي في ضوء الكليات المقاصدية، ص: 30 . Dr. Ruqiyyah ‘Abdul Razzaq,Ḍawabit al Ijtihad al Tanziyli fi Ḍaw’ al Kulliyat al Maqaṣadiyyah, p:30.
  23. تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي، فتاوى السبكي، 2:123 . Abu al Ḥasan ‘Ali bin ‘Abdul Kafi, Fatawa al Subki, 2:123.
  24. داماد أفندي ،مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر، 2:154 . Damad Āfandi, Majma‘ al Anhur Sharḥ Multaqa al Abḥur, 2:154.
  25. حاشية ابن عابدين، 2:398 . Ibn Abidiyn, Ḥashiyah Ibn Abidiyn, 2:398.
  26. المناهج الأصوليَّة في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي، ص:6. Al Manahij al Usuliyyah fil Ijtihad Birra’y fi al Tashriy‘ al Islami, p:6.
  27. سورة الأحزاب:30-32 Surah al Aḥzab; 30-32
  28. فخر الدين الرازي، التفسير الكبير، 3:460 . Fakhr al Din Razi, Al Tafsiyr al Kabiyr, 3:460.
  29. محمد بن علي الشوكاني، فَتْحُ الْقَدِيرِ الْجَامِعُ بَيْنَ فَنَّيِ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ من علم التفسير، 4:318. Muḥammad bin ‘Ali al Shokani, Fatḥ al Qadiyr, 4:318.
  30. محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 3:179 . Muḥammad Amin al Shanqiyti, Adhwa’ al Bayan fi Aidhaḥ al Qur’ān bil Qur’ān, 3:179
  31. قرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 14:174 . Qurtabi,Al Jami’ li Aḥkam al Qur’ān, 14:174.
  32. الشيخ محمد متولِّي الشعراوي، تفسير الشعراوي "الخواطر" ، 14:8692 . Shykh Muḥammad Mutawalli al Sha‘rawiy,Al Khawatir, 14:8694.
  33. أبي حيان ، البحر المحيط ، 8:473، ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 6:408. Ibn Ḥibban,Al Baḥr al Muḥiyt,8:473, Ibn Kathir,Tafsiyr al Qur’ān al ‘Aẓiym, 6:408.
  34. سورة الزمر:65 Surah Al Zumar; 65
  35. سورة الزخرف:81 Surah al Zukhruf; 81
  36. أبي حيان ، البحر المحيط ، 8:473، ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 6:408. Ibn Ḥibban,Al Baḥr al Muḥiyt,8:473, Ibn Kathir,Tafsiyr al Qur’ān al ‘Aẓiym, 6:408.
  37. سورة النساء: 25 Surah al Nisa’; 25
  38. أبي حيان، بحر المحيط ، 8:473، ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 6:408 . Ibn Ḥibban, Al Baḥr al Muḥiyt, 8:473, Ibn Kathir,Tafsiyr al Qur’ān al ‘Aẓiym, 6:408.
  39. نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري، غرائب القرآن ورغائب الفرقان، 2:397، أبي حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، 3:597، ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 2:261 . Ḥasan bin Muḥammad,Ghari’b al Qur’ān w Ragha’ib al Furqan, 2:397, Ibn Ḥibban,Al Baḥr al Muḥiyt fi al Tafsiyr، 3:597, Ibn Kathir,Tafsiyr al Qur’ān al ‘Aẓiym, 2:261.
  40. عبد اللطيف مصطفى الأسطل، مراعاة أحوال الناس في السنَّة النبوية، ص:163. Abdul Latif Muṣtafa, Mura‘at A‘ḥwal al Nas fi al Sunnah al Nabawiyyah,p:163.
  41. أخرجه أبو داود، كتاب الصوم، باب كراهيته للشباب- المباشرة والتقبيل أثناء الصوم، رقم الحديث:2389، 2:312، قال المباركفوري في تحفة الأحوذي 3:350:(وسكت عنه أبو داود والمنذري،وقال ابن الهمام سنده جيد،كذا في المرقاة) Abu Daw’ud, Ḥadith: 2389, 2:312, Tu ḥ fah al Aḥwudhiy lil Mubarakpuri, 3:350.
  42. شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، 2:222 . Sharḥ al Zurqani ‘Ala Muw’aṭṭa Imam Malik, 2:222.
  43. أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ مِنْ غَيْرِ خُيَلاَءَ، رقم الحديث:5784، 7:141 . Ṣaḥiḥ Bukhari, Ḥadith: 5784, 7:141.
  44. الحافظ ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، 10:255. Ḥafiz Ibn Ḥajar al ‘Asqalani,Fatḥ ak Bari ،10:255.
  45. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان،رقم الحديث:27،1:14، وأخرجه مسلم،كتاب الإيمان، رقم الحدیث:150،1:132. Ṣaḥiḥ Bukhari, Ḥadith: 27, 1:14, Ṣaḥiḥ Muslim Ḥadith: 150, 1:132.
  46. الإمام النووي، شرح النووي على صحيح مسلم، 7:149 . Imam Nawwi, Sharḥ al Nawwiy ‘Ala Saḥiḥ Ṣaḥiḥ Muslim، 7:149.
  47. أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، بَابُ الدُّعَاءِ بِكَثْرَةِ المَالِ مَعَ البَرَكَةِ، رقم الحديث: 6378، وأخرجه مسلم،كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أنس بن مالك، رقم الحديث:2480، واللفظ للبخاري . Ṣaḥiḥ Bukhari, Ḥadith: 6378, Ṣaḥiḥ Muslim Ḥadith: 2480.
  48. قوله "أزعب لك من المال زعبة" قال الأصمعي: أي: أعطيك دفعة من المال، والزعب: هو الدفع، يقال: جاءنا سيل يزعب زعباً، أي:يتدافع، وقد تصحَّف في الأصل إلى "أرغب" بالراء المهملة والغين المعجمة.انظر:شرح السنة للبغوي 10:91. Baghawiy,Sharḥ al Sunnah،10:91.
  49. أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث:17802،قال الحاكم:هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه إنما أخرجا في إباحة طلب المال،حديث أبي سعيد الخدري من أخذه بحقه فنعم المعونة هو فقط.انظر:المستدرك على الصحيحين، 2:3 Al Musnad lil Imam Aḥmad, Ḥadith: 17802, Al Mustadrak ‘Ala al Ṣaḥiḥayn, 2:3.
  50. الطبراني،المعجم الكبير،رقم الحديث:7873،والحديث ضعيف،أبي الفضل العراقي،المغني عن حمل الأسفار، 2:919. Al Tabrani, Al Mu‘jam al Kabir, Ḥadith: 7873, Abi Al Faḍal al ‘Iraqi, Al Mughni ‘an Ḥaml al A’sfar ،2:919.
  51. الغزالي، إحياء علوم الدين، 4:100. Ghazali, I’ḥya’ ‘Uluwm al Din, 4:100
  52. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، رقم الحديث:1826. Ṣaḥiḥ Muslim Ḥadith: 1826.
  53. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، رقم الحديث:3730، وأخرجه مسلم، كتاب الفضائل،رقم الحدیث:2426. Ṣaḥiḥ Bukhari, Ḥadith: 3730, Ṣaḥiḥ Muslim Ḥadith: 2426.
  54. أبي إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الفقه، 5:33. Al Shaṭibi, Al Muwafaqat fi U’ṣuwl al Fiqh، 5:33.
  55. أبي العبَّاس القرطبي، المفهِم لما أشكلَ من تلخيص كتاب مسلم، 4:21 . Abi al ‘Abbas al Qurtabi, Al Mufhim lima A’shkal min Talkhiyṣ Kitab Ṣaḥiḥ Muslim, 4:21.
  56. تقي الدين بن تيمية، السياسة الشرعية، ص:17. Taqi al Din Ibn Taymiyyah, Al Siyasah al Shar‘iyyah، p:17.
  57. ابن القيّم الجوزية، إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين، 2:196. Ibn al Qayyim al Jawziyyah, I‘lam al Muwaqqi‘yn ‘an Rabb al ‘Alamiyn 2:196.
  58. رواه الإمام مالك في "الموطَّأ" برواية محمد بن الحسن الشيباني، رقم الأثر:425. Mu’aṭṭah Imam Malik, Ḥadith:425.
  59. أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، المنتقى شرح الموطّأ،2:197. Abi al Waliyd Sulyman bin Khalf al Baji, Al Muntaqa Sharḥ al Mu’aṭṭah،2:197.
  60. رواه الطبراني في المعجم الأوسط،رقم الحدیث:8684، قال الهيثمي: "فيه عبد الله بن صالح قال فيه عبد الملك بن شعيب: ثقة مأمون، وضعفه أحمد وغيره". انظر: مجمع الزوائد 2:223. Al Mu’jam al A’wsat, Ḥadith: 8684, Majma‘ al Zawa’id, 2:223.
  61. رواه الإمام أحمد في مسنده، رقم الحدیث:16943. Musnad al Aḥmad, Ḥadith: 16943.
  62. أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، رقم الأثر:3912، قال الحافظ ابن حجر: " وهذا مرسل، يعني: أنَّ نافعاً لم يدرك عمر بن الخطاب، قلت: لكن في سياق الخبر ما يدلُّ على أن نافعاً حمله عن عبد الله بن عمر، فقد قدّمنا مراراً أنَّ البخاري يعتمد مثل ذلك، إذا ترجَّح بالقرائن أن الراوي أخذه عن الشيخ المذكور في السياق، والله أعلم". انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، 1:369. Ṣaḥiḥ Bukhari, Ḥadith: 3912, Fatḥ al Bari Sharḥ Ṣaḥiḥ al Bukhari, 1:369.
  63. المعروف بابن الملقِّن، عمر بن علي، التوضيح لشرح الجامع الصحيح لأبي حفص، 20:551 . Ibn al Mulaqqin, Al Tawḍiyḥ li Sharḥ al Jami‘ al Ṣaḥiḥ ،20:551.
  64. أخرجه الترمذي،كتاب المناقب،باب مناقب زيد بن حارثة رضي الله عنه،رقم الأثر:3813،وقال الترمذي:هذا حديث حسنٌ غريب. Al Tirmadhi, Ḥadith: 3813.
  65. سرخسي، المبسوط، 11:9 . Al Sarakhsi, Al Mabsuwt, 9:11.
  66. أبي المعالي الجويني، البرهان في أصول الفقه، 2:886 . Abi al Mu‘ali al Jawayni, Al Burhan fi U’suwl al Fiqh, 2:886.
  67. ابن الجوزي، تلبيس إبليس، ص:212 . Ibn al Jawzi, Tilbiys Ibliys, p:212.
  68. الشاطبي، الموافقات في أصول الفقهل، 2:41 . al Shaṭibi, Al Muwafaqat fi U’suwl al Fiqh, 2:41.
  69. جلال الدين السيوطي، الحاوي للفتاوي، 2:138 . Jalal al Din Al Sayuwti, Al Ḥawiy lil Fatawa, 2:138.
  70. حاشية ابن عابدين، 2:398، مجمع الأنهر، 1:363. Ḥashiyah Ibn ‘Abidiyn, 2:398, Majma‘ al Anhur, 1:363.
  71. ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، 2:143 . Ibn al Qayyim al Jawziyyah, I‘lam al Muwaqqi‘yn ‘an Rabb al ‘Alamiyn, 2:143.
  72. الشاطبي، الموافقات في أصول الفقه، 3:78. Al Shaṭibi, Al Muwafaqat fi U’suwl al Fiqh, 3:78.
  73. الدكتور فتحي الدريني، بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله، 1:127. Dr.Fatḥi al Duryni, Buḥuwth Muqaranah fi al Fiqh al Islami w U’suwlihi, 1:127.
  74. الدكتور زيد بو شعراء، عوامل تغيُّر الأحكام في التشريع الإسلامي، ص:233. Dr. Zayd Bu Shu‘ara’, ‘Awamil Taghayyur al Aḥkam fi al Tashri‘ al Islami, p:233.
  75. سورة الأنفال:29 Surah al Anfal; 29
  76. الشاطبي، الموافقات في أصول الفقه، 4:97. Al Shaṭibi, Al Muwafaqat fi U’suwl al Fiqh, 4:97.
  77. الشاطبي، الموافقات في أصول الفقه، 4:97. Al Shaṭibi, Al Muwafaqat fi U’suwl al Fiqh, 4:97.
  78. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنَّفه، كتاب الديات، رقم الأثر:28326، 9:362، ورجاله ثقات، التلخيص الحبير 4:454. Muṣannaf Ibn Abi Shybah, Ḥadith: 28326, 9:362, Al Talkhiyṣ al Ḥabiyr, 4:454.
  79. ابن حجر العسقلاني، التلخيص الحبير، 4:454، ابن الملقِّن، البدر المنير، 9:560 . Al Talkhiyṣ al Ḥabiyr, 4:454, Al Badr al Muniyr, 9:560.
  80. الدكتور فتحي الدريني، بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله، 1:135. Dr.Fatḥi al Duryni, Buḥuwth Muqaranah fi al Fiqh al Islami w U’suwlihi, 1:135.
  81. الدكتور فتحي الدريني، بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله، 1:136 . Dr.Fatḥi al Duryniy, Buḥuwth Muqaranah fi al Fiqh al Islami w U’suwlihi, 1:136.
  82. علي بن محمد الشريف الجرجاني، التعريفات، ص:150. ‘Ali bin Muḥammad al Shariyf al Jurjani, Al Ta‘rifat, p:150.
  83. عبد الوهَّاب خلَّاف، علم أصول الفقه، ص:121. ‘Abdul Wahhab Khallaf, U’ṣuwl al Fiqh, p:121.
  84. أحمد بن محمد الفيومي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، 1:223 . Aḥmad bin Muḥammad al Fayuwmi, Al Miṣbaḥ al Muniyr fi Ghariyb al Sharḥ al Kabiyr, 1:223.
  85. عبد الوهَّاب خلَّاف، علم أصول الفقه، ص:121. ‘Abdul Wahhab Khallaf, U’ṣuwl al Fiqh, p:121.
  86. سورة الْأحقاف: 35 Surah al Aḥqāf; 35
  87. الشاطبي، الموافقات في أصول الفقه، 5:279. Al Shaṭibi, Al Muwafaqat fi U’ṣuwl al Fiqh, 5:279.
  88. رواه الإمام أحمد، رقم الحديث:21899، ورواه الطبراني في المعجم الكبير، رقم الحديث:3310، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، رقم الحديث:5279، قال الهيثمي:"رواه أحمد وأبو يعلى وقال: الليثي والطبراني في الكبير وقال: البكري، ورجاله موثَّقون". انظر: مجمع الزوائد 2:70. Musnad al Aḥmad, Ḥadith: 21899, Al Mu‘jam al Kabir, Ḥadith: 3310, Al Sunan al Kubra, Ḥadith: 5279, Majma‘ al Zawa’id, 2:70.
  89. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، بَابُ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ* وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (الفتح: 2) رقم الحديث:4837، ورواه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنَّة والنار، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، رقم الحديث:2820. Ṣaḥiḥ Bukhari, Ḥadith: 4837, Ṣaḥiḥ Muslim Ḥadith: 2820.
  90. رواه البخاري، كتاب الأذان، باب إِذَا دُعِيَ الإِمَامُ إِلَى الصَّلاَةِ وَبِيَدِهِ مَا يَأْكُلُ، رقم الحديث:675. Ṣaḥiḥ Bukhari, Ḥadith: 675.
  91. ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، 2:162. Fatḥ al Bari li Ibn Ḥajar, 2:162.
  92. رواه الإمام أحمد، رقم الحديث:9624، ورواه أبو داود، كتاب الأدب، بابٌ في الانتصار، رقم الحديث:4896، واللفظ للإمام أحمد. قال الهيثمي:رواه أحمد، والطبراني في الأوسط بنحوه، ورجال أحمد رجال الصحيح". انظر: مجمع الزوائد 8:190. Imam Aḥmad, Ḥadith: 9624, Abu Dawud, Ḥadith: 4896, Majma‘ al Zawa’id, 8:190.
  93. الشيخ ملَّا علي القاري، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 8:3185. Mulla ‘Ali Qari, Mirqat al Mafatiyḥ Sharḥ Mishkat al Maṣabiyḥ, 8:3185.
  94. رواه ابن أبي شيبة في مصنَّفه، رقم الأثر:34644. Muṣannaf Ibn Abi Shybah, Ḥadith: 34644.
  95. رُوَيْم بن أَحْمد بن يزِيد، أَبُو مُحَمَّد، من أجلِّ مشايخ الصوفية في بغداد، كَانَ فَقِيهاً على مَذْهَب دَاوُد الْأَصْبَهَانِيّ، وَكَانَ مقرئاً، توفي سنة (303ه). انظر: [طبقات الصوفية للسلمي ص: 147]. Ṭabaqat al Ṣufiyyah lil Salamiy, p:147.
  96. أبي عبد الرحمن السلمي، طبقات الصوفية، ص: 148، بدر الدين العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري 1:300 . Ṭabaqat al Ṣufiyyah,Al Salamiy, p:148, ‘Umdah al Qari Sharḥ Ṣaḥiḥ al Ṣaḥiḥ Bukhari li Badr al Din al ‘Ayniy, 1:300.
  97. الشّنْقِيطي: محمَّد الخَضِر بن سيد عبد الله بن أحمد الملقَّب (بما يأبى) لكرمه وسخائه، حيث كان لا يرد سائلاً ولا يأبى، و(الجكني) نسبة إلى قبيلة، و(الشنقيطي) نسبةً إلى قطر شنقيط، المعروف اليوم موريتانية، هاجر إلى المدينة المنورة، فتولى الإفتاء بها، توفي سنة (1353ه). انظر: [الأعلام للزركلي 6:113]. Al A’‘lam lil Zarkali, 6:113.
  98. محمَّد الجكني الشنقيطي،كوثَر المَعَاني الدَّرَارِي في كَشْفِ خَبَايا صَحِيحْ البُخَاري، 2:382. Muḥammad al Jakani al Shanqiṭy, Kawthar al Ma‘ani al Darariy fi Kashf Khabaya Ṣaḥiḥ al Bukhari, 2:382.
  99. أبي نعيم ،حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، 8:353، صفة الصفوة لابن الجوزي 1:577. Abi Nu‘aym, Ḥilyah al A’wliya’ wa Ṭabaqat al A’ṣfiya’, 8:353, Ibn al Jawzi, Ṣifah al Ṣafwah, 1:577.
  100. علاء الدين الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، 2:228، محمد بن رشد القرطبي، المقدِّمات الممهدات، 1:453، الماوردي، الحاوي الكبير، 9:32، ابن قدامة المقدسي، المغني، 7:4. ‘Ala’ al Din al Kasani, Bada’i‘ al Ṣana’i‘ fi Sharḥ Tartiyb al Shara’i‘, 2:228, Muḥammad bin Rushd al Qurṭabi, Al Muqaddimat al Mumahhidat, 1:453, Al Ḥawi al Kabiyr lil Mawardi, 9:32, Al Mughni li Ibn Qudamah al Maqdasi, 7:4.
  101. قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1:72. Qawa‘id al Aḥkam fi Maṣaliḥ al A’nam, 1:72.
  102. أحمد بن لؤلؤ شهاب الدين ابن النَّقِيب الشافعي، عمدة السالِك وَعدة النَّاسِك، ص:71. Aḥmad bin Luw’luw’ Shahab al Din Ibn al Naqiyb al Shafa‘i, ‘Umdah al Salik wa ‘Idah al Nasik, p:71.
Loading...
Issue Details
Id Article Title Authors Vol Info Year
Id Article Title Authors Vol Info Year
Similar Articles
Loading...
Similar Article Headings
Loading...
Similar Books
Loading...
Similar Chapters
Loading...
Similar Thesis
Loading...

Similar News

Loading...