Search from the Journals, Articles, and Headings
Advanced Search (Beta)
Home > Al-Idah > Volume 36 Issue 1 of Al-Idah

خلق التسامح أصل دين الإسلام والسبب الرئيس في انتشار دعوته |
Al-Idah
Al-Idah

Article Info
Authors

Volume

36

Issue

1

Year

2018

ARI Id

1682060034497_762

Pages

148-164

PDF URL

http://www.al-idah.pk/index.php/al-idah/article/download/30/24

Chapter URL

http://al-idah.szic.pk/index.php/al-idah/article/view/30

Asian Research Index Whatsapp Chanel
Asian Research Index Whatsapp Chanel

Join our Whatsapp Channel to get regular updates.

ملخص

هذا بحث نتحدث فيه عن خلق عظيم يعد أساس الأخلاق التي قام عليها دين الإسلام في بناء أواصر المحبة والوئام بين المسلمين وأفراد البشر قاطبة وهو السبب الرئيس في انتشار دعوته ورسالته إلى شتى بقاع الأرض دون إجبار أو إكراه. وبسبب ما يُشهَدُ في هذا العَصرِ من غُرْبَة عن دين الإسلام وأخلاقه أصبح الكثيرون يحاولون اتهام الإسلام بالإرهاب والقتل والترويع، ومن هنا تظهر أهمية هذا البحث في بيان حقيقة أخلاق الإسلام وقيمه الراقية الرفيعة. ولتحقيق الهدف المنشود قسمنا البحث إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة؛ تحدثنا في المقدمة عن أهمية الموضوع وسبب اختياره وبيَّنا في التمهيد دلالة لفظ التسامح مقارنة بالكلمات القرآنية المستعملة في هذا الموضوع، وفي المبحث الأول أشرنا إلى أن خلق التسامح هو أصل الإسلام الذي تخلَّق به رسول الله عليه صلاة الله وسلامه، وبيَّنا في الثاني أن التسامح سبب انتشار دين الإسلام ودخول الناس فيه طواعية ومحبة. أما المبحث الثالث فبيَّنا فيه أن خلق التسامح أصلٌ لحل المشاكل وفض كل صور النزاعات والخلافات بين الدول والأفراد والأحزاب والجماعات. واستعرضنا في الخاتمة أهم النتائج والتوصيات.

المقدمة

الحمد لله حمداً يليق بذاته وكمال أسمائه وصفاته، على ما أظهر من بديع آياته، وصنوف تجلياته التي أسبغ بها نعمه الظاهرة والباطنة على صفوة خلقه من رسله وأنبيائه، فحلَّاهم بزينة مكارم الأخلاق، وأدبهم بأحسن الشمائل وأكمل الصفات، فجعلهم أئمة يهدون بأمره إلى سبل الخير والسلام، والرحمة والمودة والوئام، فأخرج الذين اتبعوهم من ظلمات الجهالة العمياء والعصبية الرعناء إلى رحاب جنة محبته ورضاه.

وصلوات الله وسلامه على من أضاء الله بسراجه المنير قلوب وسرائر العلماء العاملين، والأولياء المتقين، فاهتدوا إلى سواء السبيل، وجعلهم حجَّة على المنكرين ومظهراً من مظاهر رحمته للناس أجمعين. أما بعد:

فخلق التسامح من أهم الموضوعات التي ينبغي أن يوليها الباحثون أهمية قصوى في عصر الغربة عن الإسلام، وظهور الفتن والانقسام، فلا بد من تضافر جهود العلماء والمصلحين في تجديد أمر هذا الدين، وإصلاح ما أفسده الضالون، ونال منه المتآمرون سعياً لإطفاء نوره، وصداً للناس عن سبيله.

لتتم العودة إلى الأسس التي قامت عليها دعوته، والتحلي بالقيم والمثل التي حملتها شريعته، فالسماحة من أهم أوصافها وخصائصها، ومنهج الدعوى التي تمثلها، ومن هنا تظهر أهمية هذا البحث لما له من أثر بالغ في بيان أصل الإسلام ومنهج الدعوة إليه.

وقد قسمنا البحث إلى تمهيد وثلاثة مباحث وخاتمه.

أما التمهيد فقد جعلناه لبيان مدلول لفظ التسامح ومقارنته بالكلمات البديلة التي استعملها القرآن الكريم.

المبحث الأول: التسامح أصل دعوة الإسلام الذي تمثله رسول الله وصحبه الكرام.

المبحث الثاني: التسامح سبب انتشار الإسلام ودخول الناس فيه طواعية ومحبة.

المبحث الثالث: التسامح أصل لحل المشاكل وفض كل صور النزاع والخلافات بين الدول والأفراد والأحزاب والجماعات.

الخاتمة: استعرضنا فيها أهم النتائج والتوصيات.

التمهيد دلالة التسامح مقارنة بكلمات القرآن البديلة

من الملاحظ أن كلمة سمح ومشتقاتها لم ترد في القرآن الكريم رغم أنها من فصيح ألفاظ العرب وعلى ذلك جاءت مستعملة في السنة المشرفة، والسر في ذلك أن القرآن الكريم قد تخير أفصح ما في اللغة العربية من ألفاظ وأشدها لحمة بالدلالة على المقصود.

فلفظ التسامح والسماحة إنما يدل في اللغة على التساهل واللين، والسلاسة والسهولة ([1]).

يقال في اللغة:

" تسامحوا: تساهلوا، وأسمحت الدابة لانت بعد استصعاب، وعود سمح: لا عقدة فيه ([2]). وفي المعجم الوسيط: سمح سَمْحا وسماحة: لان وسهل.. وانقاد بعد استصعاب.. وسمّح الشيء: جعله ليناً سهلاً، تسامح في كذا تساهل، والسماح: التسامح والتساهل وفيه بيع السماح: وهو البيع بأقل من الثمن المناسب([3]).

وعلى هذا المعنى جاء استعماله في السنة الشريفة ([4])، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: رحم الله امرأ سمحا إذا اشترى وإذا باع وإذا اقتضى([5]).

ويلحظ مما قدمناه في هذه الألفاظ أنها لا تحمل من الدلالة ما يحمله لفظ العفو من معنى إسقاط الحق والتنازل عنه، أو لفظ الصفح الذي يفيد معنى زائداً عن العفو وذلك بمحو كل الآثار التي علقت بالنفس منه.

فالصفح: أبلغ من العفو وهو ترك التثريب ([6]) وعلى ذلك ورد قوله تعالى: )فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ(سورة البقرة آية 109

ومن الملاحظ أن كلمة السلام لها مدلول أوسع من كلمة التسامح وهو ما سألفت النظر إليه فيما يأتي بإذن الله تعالى، غير أن دلالة الألفاظ تتغير وتتسع معانيها في الاستعمال، لذلك نجد في المعاجم الحديثة استعمالها في معنى العفو ومعنى الجود والكرم؛ ورد في المعجم الوسيط : سمح فلان: بذل في العسر واليسر عن كرم وسخاء.. وسمح بذنبه: عفا عنه([7]).

وقد وجدنا صاحب مختار الصحاح يذكر في مقدمة معانيها الجود، حيث قال: السماح والسماحة الجود، وسمح به سماحاً وسماحة أي جاد، وسمح له أي أعطاه ، ثم ذكر معنى المساهلة ولم يذكر معنى العفو([8]).

ولا يخفى أنه في العرف العام قد استعمل في كل هذه المعاني، لكن لفظ الجود والكرم أفصح في الدلالة الظاهرة على حقيقة البذل والعطاء الصادر عن طيب نفس بدون تكلف، فظاهر ما يوحيه قول (جاد فلان بنفسه وماله) من معاني يقصر عنها قول (سمح فلان بماله أو بحقه).

المبحث الأول

التسامح أصل دعوة الإسلام الذي تمثله رسول الله وصحبه الكرام

التسامح بمعناه الواسع أصل من أصول الإسلام، ومقصد هام من مقاصده العليا، فابن عاشور جعل السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها، حيث جعلها راجعة إلى معنى الاعتدال والعدل والتوسط وينبني على ذلك أنها منبع الكمالات ([9]).

أما إن التسامح هو الأصل الذي قامت عليه دعوة الإسلام فهذا ظاهر حيث تقرر في الشريعة من بداية الدعوة أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، مهما كان الذي جناه أو اقترفه من المعاصي والإثم، والظلم والعدوان وبمجرد أن ينطق بالشهادتين تنطوي من عالمه وعند المسلمين تحذف هذه الصفحة السوداء من سجله كأنها لم تكن، دون حساب أو مساءلة عن شيء قبلها، وهذالم يُشهد له مثيل في القوانين الوضعية والشرائع الأرضية، وليس هذا فقط لمن دخل في الإسلام ولو كان من أشد أعدائه ومحاربيه، بل جعل باب التوبة مفتوحاً لمن أساء وزلَّت قدمه بعد الدخول فيه فمن رحمة الله وسماحة هذا الدين أن جعلها ممتدة إلى آخر لحظات حياته ومحا بالتوبة النصوح جميع خطاياه وسائر زلاته، فعاد التائب من الذنب كمن لا ذنب له، بل وعد المحسن بعد الإساءة بتبديل سيئاته حسنات، كما جعل الأعمال الصالحة التي شرعها باباً من أبواب التطهير من كل الذنوب والآثام، هذا ما رتبه الشارع على الصلاة والصيام والزكاة والصدقة والحج، وكل أعمال البر، وقد أكد رسول الله عليه الصلاة والسلام على هذا، فقال: ”اتق اللهَ حَيثُما كُنت و أَتْبِع السيِّئَة الحسنَةَ تَمحُها و خَالِق النَّاسَ بِخُلق حَسَن "([10]) .

وهذا ما يشهد بجلاء على أن التسامح الذي قامت عليه شريعة الإسلام من مقاصدها الهامة المعتبرة.

والناظر فيما تضمنته نصوص القرآن الكريم من بداية أمر الدعوة إلى تمام نزول القرآن الكريم من أوامر وتوجيهات تحث على العفو والصفح، والإحسان والإيثار والمسامحة يجدها شائعة في سوره وآياته.

فقد قامت دعوة الإسلام منذ الإعلان عنها على عدم رد الإساءة من الأعداء بالمثل، بل كانوا مأمورين بالصبر والتحمل والعفو والإحسان وهذا عينه ما تمثله رسول الله أقولاً وأفعالاً وصحبه الكرام، من ذلك قول الله تعالى: )وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ+ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ( سورة فصلت الآيات 34-35 ، فدفع السيئة بالحسنة هو قمة مكارم الأخلاق، وكمال الأدب الإلهي الذي ربى عليه نبيه والمؤمنين الصادقين وهو أبعد أثراً في كبح جماح الشر من النفس، وإزالة ما في القلب من العداوة والبغضاء، فهو من أهم أسباب نجاح الدعاة وقدرتهم على الإصلاح والتغيير، وهناك من الثمار المترتبة عليه من الفوز برضوان الله ورحمته ومضاعفة الأجر والثواب ما يحفز كل مسلم على التخلق والتحقق به.

قال تعالى: ) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ( سورة الرعد، آية 22.

ورسول الله لم يكن مأمورا بالتسامح أو العفو فقط بل بالصفح عن أتباعه والاستغفار لهم والصلاة عليهم. قال الله سبحانه وتعالى: ) فَاعْفُ عَنْهُمْـ وَاصْفَح إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( سورة المائدة، آية 13.وقال تعالى:) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ( سورة آل عمران، آية 159.

وقد حثَّ رسول الله أمته على التخلق بهذه الخصال حيث قال: " ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه حاسبه الله حسابا يسـيرا وأَدخَلَهُ الجنَّة برحمتـه. قالوا: من يا رسول الله، فقال: تعطي من حَرَمك، وتغفر عمن ظلمك، وتَصِلُ مَن قطعـك"([11]) .

وإذا نظرنا إلى واقع ما تمثله رسول الله في دعوته من تلك الأخلاق العظيمة صعب علينا إحصاؤها وسنكتفي بإشارات سريعة لها؛ فقد تعرض رسول الله للأذى الشديد من قومه، وأشده الذي لقيه من أهل الطائف وقد عرض عليه عذاب قومه فأبى آملاً أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله ويشهد بأن محمـداً رســول الله، فهذا نمط ظاهر في التسامح.

وأعلى منه طلب المغفرة والهداية لهم، ففي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم رد على الذين طلبوا منه الدعاء على من أشرك فقال: إن الله لم يبعثني لعاناً و إنما بعثـت رحمــة ([12]).

وهذا الخلق الكريم من التسامح مع المسيء هو ما أمر الله سبحانه وتعالى أهل الفضل والسعة، فقال سبحانه: )وَلا يَأْتَلِ أُولُـو الْفَضْـلِ مِنْـكُمْ وَالسَّـعَةِ أَنْ يُؤْتُـوا أُولِي الْـقُرْبَى وَالْمَـسَاكِينَ وَالْمُهَـاجِرِينَ فِي سَبِيـلِ اللَّهِ وَلْيَعْفـُوا وَلْيَصْفَحُـوا أَلا تُحِبُّـونَ أَنْ يَغْفِـرَ اللَّهُ لَكُـمْ وَاللّـَهُ غَفُورٌ رَحِيـمٌ( سورة النور، آية 22

وإذا كانت تلك الآية الكريمة نزلت في أبي بكر الصديق عندما أقسم أن لا ينفق على قريبه مسطـح بسبب إساءته إليه بحديث الإفك في زوج الرسول السيدة عائشة رضي الله عنها، إلا أنه دعوة عامة للمؤمنين الذين يرغبون في اللحوق بأهل الفضل الذين يعدهم الله بالمغفرة والرضوان. وهذه الـمُثُل العليا في التسامح حين تسود بين الأمة يَصلُح شَأنُها ويعلو أمرها.

وأصل هام من الأصول التي قامت عليها دعوة الإسلام، ويُعَدُّ أصلا بالغ الأهمية في التسامح بين المسلمين هو: إفشاء السلام الذي جعله الشارع سبحانه تحية الإسلام، وأبطل كل ما هنالك من صور التحيات التي شاعت في الجاهلية.

وحكمة السلام في الإسلام تعني نشر السلامة والطمأنينة بين أفراد المجتمع، ذلك أن طرح السلام على من تعرفه ومن لا تعرفه، هو إيذان منك بطمأنينة من تسلم عليه، أن يلحق به أذى من قبلك بالقول أو الفعل، في حضوره أو غيابه بعد أن تسلِّم عليه، أياً كان موقفه منك أو تعامله معك.

فهذا من أعظم أبواب التسامح التي شرعها الإسلام، وجعلها سبب كل خير ومعقد كل رجاء في الدنيا والآخرة.

وقد جعل الرد عليه واجباً لأن من حياك بهذه التحية، وضمن لك السلامة من قبله فمن الواجب أن تعامله بالمثل إن لم تتكرم على إحسانه إليك بمزيد من الإحسان وهذا ما أمر به الله عباده المؤمنين في قوله سبحانه: )وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّـةٍ فَحَيُّـوا بِأَحْسَـنَ مِنْهَـا أَوْ رُدُّوهَـا إِنَّ اللَّهَ كَـانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبـاً( سورة: النساء، آية: 86

وقد أكد رسول الله على عظيم مكانة السلام في دين الله وأنه أصل قوي لدخول الأمة في جنة الأمن والاطمئنان والمحبة والسلام في الدنيا فضلاً على دخول جنة الخلد في أعلى مقام. وما سمى الله سبحانه جنة الخلد بدار السلام إلا لأن الله تعالى قد ضمن لمن يدخلها السلامة التامة من كل ما يعكر صفو الحياة فيها.

ولما كان إلقاء السلام مظهراً من مظاهر القدرة على العفو والتسامح حرم على المسلم هجران أخيه أكثر من ثلاث ليال، وجعل خير الأخوين هو الذي يبدأ ويبادر أخاه بالسلام([13]).

وجعل الله من صفات المؤمنين عدم مجاراة السفهاء والترفع عن مستوى الجهلاء بدون التعامل معهم بالمثل حيث قال: )وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً( سورة الفرقان، آية:63 أي قولاً يشعر بالصفح عنهم وبسلامتهم من لحوق أذى بهم، وهذا لا يتأتى إلا إذا كان التسامح والصفح عن المسيء وصفاً لهم وسمة بارزة في تعاملهم مع الآخرين.

وهذا ما صرح به قول الله تعالى: )وَإِذَا سَمِعُـوا اللَّغْـوَ أَعْرَضُـوا عَنْـهُ وَقَالُـوا لَنَـا أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ سَـلامٌ عَلَيْكُـمْ لا نَبْتَغِـي الْجَاهِلِـينَ(سورة القصص، آية: 55

المبحث الثاني

التسامح سبب هام في انتشار الإسلام ودخول الناس فيه عن طواعية واختيار

إن التسامح الذي مصدره القلب المفطور على الرحمة والحرص على هداية الناس وحب الخير لهم، لهو من أهم الأسباب في تآلف القلوب، وإقبالها على الإسلام، وتفانيها في محبة الرسول عليه صلاة الله وسلامه الذي أعطى مثلاً أعلى في خلق التسامح فيما هو من حق نفسه، فتحمل الأذى ووسع الناس صفحاً وحلماً وكان لذلك أكبر الأثر في هداية أشد القلوب قسوة، وأكثرها عداء وكرها.

لقد جعل هذا التسامح من النبي الكريم مع الأعرابي الذي أراد أن يقتله أن يراه خير الناس جميعاً، وليصرح بهذا أمام قومه المحاربين له([14])، وفي هذا ما فيه من تغيير لصورته في قلوبهم ومراجعتهم لموقفهم من دعوته، والإباء في النفس العربية بمنعها من الدخول في الإسلام تحت الاضطرار ويرونه منقصة ومذمة، ويتحاشون الكذب، ويؤثرون الصدق في المواقف ولو كلفهم أرواحهم.

ومن ذلك قصة إسلام زيد بن سعنَّة الذي قدم إلى رسول الله عليه صلاة الله وسلامه يطلب دينه قبل موعده بيومين أو ثلاثة، فأغلظ عليه في الطلب، وتسافه في الخطاب حتى همّ عمر بقتله، فنهاه رسول الله وأمره أن يأخذه إلى بيت المال ويزيده عشرين صاعاً من تمر، وحين سأل عن سبب الزيادة، وعرّف عمر بنفسه وأنه الحبر، سأله عمر عما دعاه إلى فعل ما فعل: فقال: عرفت جميع علامات

النبوة إلا اثنتين لم أجربهما فيه: أن يسبق حمله الجهل، و لا تزيده شـدة الإساءة عليه إلا صفحا وحلما وقد خبرتهما الآن، فإني أشهدك يا عمر أَني قبلت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولا، وإني أشهدك أن نصف أموالي صدقة للمسلمين، فرجع به عمر إلى رسول الله ونطق بالشهادتين وبايع وشهد مع المسلمين عدة غزوات([15]).

ومن الواضح المعلوم أن تسامح رسول الله وصفحه وإحسانه لم يكن مرجعه أبداً لضعف أو عدم القدرة، وهذا ملاحظ في كل الأمثلة التي قدمناها فكان يستطيع بإشارة منه أن يتخلص من حماقة السفهاء . وهذا ما كان عليه الحال في مكّة ؛ فإنه كان بمكنته أن يتخلص من زعماء قريش الذين ناصبوه العداء بأن يأمر من آمن معه من العبيد بوضع السّم لهم ، لكن ذلك يتنافى مع أخلاق الإسلام وتعاليم القرآن.

وبغير هذا كان قادرا لو أراد أن يستبدل صورة المثل الأعلى في العبودية لله، التي آثرها على المُلك والسلطان ليشهد الكل عظمة وقدرة الله فيما يجريه الله على يديه من الآيات، حتى لا يفتتن به أحد من أمّته افتتان غيرهم برسلهم وأنبيائهم .

وهذه صورة من صور المهابة والعزّة والجلال الذي كساه الله بها، وكانت ترتعد منه فرائص الرجال، فظهر بها في وجه الطاغية أشد أعداء الإسلام أبي جهل، حين استضعفه القوم، وأرادوا أن يحرجوه أمام غريب وعابر سبيل اشترى أبو جهل إبله، وأبى أن يؤديه حقّه؛

فأقبل الرجل الذي باع أبا جهل الإبل ووقف أمام نادٍ من أندية قريش، والرسول في ناحية المسجد جالسا. فقال: يا معشر قريش من يسترد حقي من أبي الحكم بن هشام، فأنا رجل غريب، وقد منعني حقي. فأجابه الحاضرون : اذهب إلى ذلك الرجل -يقصدون رسول الله، يهزءون بالسائل لعلمهم بعداوة أبي جهل لرسول الله عليه صلاة الله وسلامه-... ولم يخيّب الرسول ظن السائل، فانطلق معه إلى أبي جهل وطرق بابه، فسأل من الطارق؟ قال: محمد أخرج إلي. فخرج من بيته منتقعا لونه، وطلب منه أن يؤدي حقّ الرجل ، فأجابه قائلا: أجل لا تبرح إلى أن أعطيه حقه، فدخل وخرج جالبا حق البائع ودفعه إليه. وقد ذهل القوم وعجبوا من أمر أبي جهل لما أخبرهم الأراشي ،- ورسول قد بعثوه – بما رأى وسمع، ولمّا عاتبوا أبا جهل قال لهم : ويحكم والله... إني ملئت منه رعبا ، وقد خرجت من بيتي ورأيت فوق رأسه فحلا عظيما من الإبل، مـا شاهدت مثله قط ، ولو أبيت لقتلني ([16]) .

ومن صور التسامح التي لا تعد ولا تحصى أن الأنصار حين فزعوا إلى الرسول عليه صلاة الله وسلامه حاقدين على ثقيف، قالوا: يا نبي الله أدع على ثقيف أن يهلكهم الله، فقال الرسول اللهم اهدهم، فسألوه أن يدعو عليهم فلم يجبهم وقال: اللهم أهد ثقيفاً، فراجعوه فعاد بالدعاء لهم، فلما أسلموا كانوا من الصالحين إسلاماً وكان منهم الأئمة والقادة ([17]).

ومنها أيضاً حين فتح مكة ومكّنه الله من القوم الذين ناصبوه العداء، وتفننوا في الإيذاء، فقد أمنهم على أنفسهم وأموالهم، وحين واجههم بقوله: ماذا تـرون أني فاعـل بكـم، فقالـوا: أخ كريـم وابـن أخ كريـم، فقال: أذهبـوا فـأنتم الطلقـاء([18])، بل أمّن من خرج هائماً على وجهه في الأرض، لم يتوقع مسامحة على بشاعة ما صدر منه من إساءة ومعاداة، وكان ذلك سبباً في إسلامه ومحبته.

وسماحة الإسلام التي كانت سبباً في انتشاره في البلاد التي فتحها المسلمون على طولها وعرضها قد شهد بها المنصفون من غير أتباع دين الإسلام.

فغوستاف لوبون يقول: الحق أن الأمـم لم تـَعرِف فـاتحينَ راحميـِن متسـامحيـن مثـلَ العـربِ ولا دينـاً سَمْحـاً مِثلَ دِينهـم ([19]).

والمستشرق دروزي يقول: ”إنَّ تَسـامُح وَمعـاملـة المـسلمِين الطَّيِّبـة لأهل الذمَّـة ساهم في إقبالهـم إلى الإسـلام وأنهم شهدوا فيـه التيسير والبساطة ممـالم يألفوه من ديانتهم السابقـة ([20]).

وهذا رونالد ركويك يقول: لقد راقني ذلك التسامح الذي يتعامل به المسلمون مع مخالفيهم تسامحا في السلام، وتسامحا في الحرب، والتعامل الإنساني في دين الإسلام ظاهر في جميع تعاليمه([21]).

ولم ينس البعض أن يعقد مقارنة بين تعامل المسلمين مع البلاد التي فتحوها، مع تعامل الغير معهم. مثال المستشرقة الألمانية زيغرد هونكة، وهنري دي سامبوه قال: فإننا ندين لهم بكل محاسن حضارتنا العلمية والفنية والصناعية ومدعوون لكي نقر بأنهم... مثال في الكمال البشـري وفي نفس الوقت كنا مثالا للهمجية([22]). وإنما مرجع هذا كله إلى وصايا الخلفاء وقادة الجيوش والأمراء لكل بعث يوجهونه وكل حرب يخوضونه بالعدل والرحمة وعدم الظلم والغدر، والوفاء بالعهدة وعدم نقض الصلح إذا أبرم.

فمن كلام الصديق لأول بعثة أرسلها إلى الشـام: ”إذا نصركم الله على عدوه فـلا تقتُلُوا وَلـداً، ولا شيخاً، ولا امرأة، ولا طفلاً، ولا تعقروا بهيمة، ولا تغدروا إذا عاهدتم، ولا تنقضوا إذا صالحتم، وستمرون على قوم في الصوامع رهباناً يزعمون أنهم ترهبوا في الله، فدعوهم ولا تهدموا صوامعهم"([23])

وفي المقابل كان الظلم والاضطهاد والسلب والنهب من قبل البطارقة وقادة الجيوش الرومانية سبباً هاماً في وقوف رعاياهم في كثير من الأحيان إلى جانب المسلمين، ولعبوا دوراً هاماً في انتصارهم في المعارك الحاسمة، ومن أهل المدن من حارب من ولَّاهم هرقل عليهم من البطارقة بسبب أنهم اضطهدوهم وأمعنوا في ظلمهم .

فأهل بعلبك حين صالحوا أبا عبيدة على شرطهم أن لا يدخلها أحد ممن يستخلفهم عليها من الجند ويبقون خارج المدينة وهم الذين يخرجون إليهم بسوق فيه من جميع ما في المدينة، وقد كان لسماحة المسلمين في البيع أثر بالغ في تقديرهم وإيثارهم على بطريقهم الذي طمع فيما جنوه من أرباح طائلة، نتيجة تسامح المسلمين فيما يعطونه مقابل ما يأخذونه حتى إنهم كانوا يبيعونهم ما قيمته عشرون درهماً بدرهمين فقط، فلما رأى ذلك فرض عليهم العشر، ولم يكتف حتى أوصله إلى الربع فأبى القوم وثاروا عليه فقتلوه وقتلوا غلمانه، وخرج أهل بعلبك إلى أمير أبي عبيدة يطلبون منه الدخول إلى المدينة وتولي الأمر فيها، ومع هذا لم يدخلها إلا بعد أن استأذن أبا عبيدة فأذن له ([24]).

ولما فتح أبو عبيدة رضي الله عنه مدينة حمص وصالح أهلها أبى أن يدخلها إلا بعد معركة اليرموك التي حشد لها هرقل كل قواته، وكان أبو الجعد رئيساً من رؤساء المدينة بسكن الزراعة التي نزل فيها عسكر الروم في طريقهم إلى اليرموك، فأكرمهم وأطعمهم وسقاهم ولكنهم غدروا به حيث اغتصبوا عروسه وقتلوا أولاده، ولم يعبأ قائد الجيش بكل ما جرى. وكان هذا الغدر بأبي الجعيد هو الذي حمله يوم اليرموك، على الذهاب إلى معسكر المسلمين ولقائه بخالد بن الوليد رضي الله عنه وعمل معه على مكيدة الروم راح فيها ما لا يعد ولا يحصى منهم حتى سمى العرب المخاضة التي ساق أبو الجعد الروم إليها وتساقطوا فيها بالناقوصة لنقص الروم. فكانت سبباً في قلة عددهم وتبديد شملهم والدائرة عليهم، وحاول ماهان صبيحتها عبثاً أن يعقد هدنة مع المسلمين ولم يأت المساء حتى ولى القوم مدبرين وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون حيث تجاوز عدد القتلى مائة ألف والأسرى أربعين ألفاً ([25]).

ويورد توماس أرنولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام الكثير من صور التسامح التي تعامل بها المسلمون في الفتح الإسلامي مع الأهالي التي جعلتهم ينظرون إليهم كمحررين لهم من الظلم والاضطهاد الذي عانوا منه قروناً طويلة.

من ذلك ما نقله مما كتبه الأهالي المسيحيون إلى أبي عبيدة لما بلغ وادي الأردن وعسكر في منطقة فحل يقولون: يا أيها المسلمون أنتم أعظم حبا إلينـا مـن الـرُّوم وإِن كانـوا يدينون بديننا. فأنتم أوفـَى لنا، وأكثر رأفة بنا، وأبعد عن ظلمنـا، وأفضل ولايـَة علينـا، ولكنَّهُم غلبونا علـى أمرنا وعلـى منـازلنـا"([26]) .

المبحث الثالث

التسامح هو الأصل في حل المشاكل والنزاع بين الأفراد والجماعات

كان العرب في جاهليتهم لا يعرفون التسامح الذي يمس كبرياءهم ويلطخ سمعتهم، فأي نزاع يقع بين القبائل أو بين جماعتين من أفراد القبيلة نفسها غالباً ما يؤدي إلى اشتعال الحروب الطاحنة التي تأكل الأخضر واليابس، وتستمر سنين طويلة تكاد تفني الفريقين، ولا يعودون إلى رشدهم إلا بعد اليأس من تحقيق المآرب.

فحرب البسوس التي دامت عشرات السنين، وقسمت القبيلة إلى قسمين ما كان لها أن تقوم لو توفرت أدنى درجات التسامح من ملك القبيلة الذي أقدم على قتل ناقة عجوز في جوار أقرب الناس إليه وأخص ندمائه وما كان لها أن تستمر بعد مقتله لو تداعى العقلاء وقبلوا بالصلح وتخلقوا بالتسامح فإنهم عائلة واحدة، ومصابهم واحد.

من أجل ذلك كان الأصل الذي قام عليه الإسلام ليضمن الأمن والطمأنينة والسلام بين كل الداخلين فيه من القبائل والشعوب وضع ثارات الجاهلية ، فأوجب على المسلم أن يسقط كل ثأر كان له في الجاهلية عن أخيه المسلم ويسمح له ما سلف كأنه لم يكن، ولا يكون في قلبه إلا المحبة والمودة وذلك ما أعلنه رسول الله في حجة الـوداع ([27]).

فكان هذا أول قانون في التسامح لم تعرف البشرية له مثيلاً في تاريخها الطويل، وظل رسول الله عليه صلاة الله وسلامه حريصاً كل الحرص على إقراره والتذكير بـه سبيلاً لفض كل صور النزاع المؤدية إلى الضعف والانقسام وشماتة الأعداء الذين لا يألون جهداً في زرع الفتنة بين المسلمين، والتي من خلالها يسهل عليهم حربهم وتشتيت كلمتهم والتحكم فيهم.

ولولا روح التسامح التي زرعها الإسلام في قلوب أتباعه، لما أمكنهم هذه القرون الطويلة أن يصمدوا أمام أعدائهم وتظل دولة الإسلام قائمة، ففي تاريخ الإسلام أمثلة كثيرة على هذا التسامح الذي كان له هذا الأثر وتلك العاقبة.

ومن أعظم هذه الصور دلالة على مدى غيظ الأعداء من وحدة صف هذه الأمة وسعيهم الدؤوب على إثارة العصبية والنعرات الجاهلية؛ محاولة اليهود الوقيعة بين أصحاب الرسول عليه صلاة الله وسلامه، حتى كادت تشتعل بينهـم الحرب، لـولا أن تداركهم الله برحمته وأيقنوا أن ما صدر منهم هو من مكر الشيطان وتحايل عدوهم ([28]).

فمن الملاحظ أن التسامح والقدرة على الصفح هما، السبيل الأقوم في تجاوز كل صور الخلاف، والخروج من النزاعات والفتن التي إن استمرت عصفت بالأمة وحكمت عليها بالفشل، وهذا ما حذر الله منه أمة الإسلام جميعاً في قوله سبحانه: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}.

وقد حدثت الفتن في عهد الصحابة ووقع الاقتتال بينهم إلا أنهم تمكنوا بالتسامح أن يبقوا على دولتهم مهابة الجانب ويعيدوا إلى الأمة عافيتها ويجمعوا على الخير كلمتها، ففتنة الجمل التي أشعل نارها من لم يرق لهم هذا التسامح الذي أبداه أمراء الفريقين المختلفين من الصحابة والاتفاق على الصلح، فدبروها مكيدة بليل راح ضحيتها آلاف من الصحابة والمسلمين.

ولكن ما أظهره الإمام علي كرم الله وجهه من التسامح كان سبباً هاماً في رأب الصدع وتضميد الجراح، فكان من المبادرين إلى السلام على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه ولم يكلمها إلا بعبارات التبجيل والتقدير فكان خطابه لها: كيف أنت يا أم’؟ قالت بخير، فقال: يغفر الله لك. وجاء الدار التي نزلتها، فاستأذن وسلَّم عليها، ورحبت به، ولما قال رجل لأمير المؤمنين: إن في الباب رجلين يسيئان إلى عائشة، أمر القعقاع بأن يجلـدهما ويخرجهما مـن ثيابهما. وحينما خرجت من البصرة زودها علي رضي الله عنه بجميع حاجاتها وأمر أربعين امرأة أن يرافقنها، وكذلك سار معها أخوها محمد وعلي رافقها أميالاً مودعاً لها... ([29])

وأعظم من هذا التسامح وأكبر أثراً ما أبداه الإمام الحسن بن علي رضي الله عنه حين قرر الصلح مع معاوية بن سفيان وحقن دماء المسلمين.

ذكر ابن كثير أنه بايع الحسن تسعون ألفاً فزهد في الخلافة وصالح معاوية ولم يسل في أيامه محجمة من دم، وكان لما يسمع أصحابه يقولون: يا عار المؤمنين، يقول لهم: العار خير من النار ([30]).

ويدلنا على عظيم مكانة التسامح في الإسلام الذي فيه التغلب على هوى النفس والتنازل عن الحق ولو كان إلى من هو أقل منه شرفاً ومرتبة في الدين ([31]).

وإذا كان الاختلاف بين الناس سنة من السنن الإلهية، فالتفاوت في الدرجات في العلم والمال والجاه والقوة مع اختلاف الرغبات وتعارض الأهواء والمصالح أمر من الممكن تقبله والتعايش معه إذا انضبط ميزان التعامل بالحق والعدل والمساواة والرحمة وارتفع الظلم وسادت روح المحبة والتسامح، لكن الذي لا يمكن أن يكون مقبولاً في الدين وفي أعراف أهل العقل والحكمة أن يسوق هذا الاختلاف إلى التنازع المؤدي إلى الاقتتال والتخاصم.

وإذا كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم على إباحة المسلمين دماء بعضهم البعض ووصول الاختلاف إلى حد الاقتتال بالكفر ([32]) فإن موالاة الأعداء واستعدائهم على المسلمين لهو من الردة عن الدين المؤذنة بزوال الدول والمقتضية لاستبدال ولاتها قدراً إلهيا وحكماً ربانياً كما قال سبحانه :

)يَاأَيُّهَا الَّذِيـنَ آمَنُــوا مَـنْ يَرْتَـدَّ مِنْـكُمْ عَـنْ دِينِـهِ فَسَــوْفَ يَأْتِي اللَّـهُ بِقَـوْمٍ يُحِبُّهُـمْ وَيُحِبُّونَـهُ أَذِلّـَةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِيـنَ أَعِـزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِيـنَ يُجَاهِـدُونَ فِي سَبِيـلِ اللَّهِ وَلا يَخَـافُونَ لَوْمَـةَ لائِـمٍ ذَلِـكَ فَضْـلُ اللَّـهِ يُؤْتِيـهِ مَـنْ يَشَـاءُ وَاللَّهُ وَاسِـعٌ عَلِيـمٌ(سورة:المائدة،آية54.

وإذا كانت أمتنا العربية والإسلامية تمر هذه الأيام بأشد حالات الضعف والانقسام والنزاع والاقتتال فعلى العقلاء من ولاة الأمر فيها أن يبادروا إلى جمع الكلمة وتوحيد الصف وخيرهم الذي يبدأ بالسلام ويتحلى بالتسامح والصفح والإحسان، وعلى الحكماء من العلماء أن يبادروا كذلك إلى توحيد كلمة الفِرَق المختلفة والأحزاب المتناحرة ليكونوا صفاً واحداً في مواجهة الأعداء الذين يتربصون بدينهم وأوطانهم الدوائر ولا يفرقون بين أحد منهم، وهذا من أوجب الواجبات في هذا الزمن على العلماء والأمراء، فإنهم إذا صلحوا صلحت الأمة، وإن فسدوا فسدت الأمة.

نسأل الله العلي العظيم الجواد الكريم أن يتولانا برحمته، ويعفو عنا ويغفر لنا كل ما بدر منا هو ولينا في الدنيا والآخرة عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير، ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الخاتمة

تبين لنا من خلال ما قدمنا في هذا البحث مدى أهمية خلق التسامح في حل المشاكل وفض صور النزاع والخلاف التي تؤثر على وحدة الصف وتآلف القلوب والشعور بالطمأنينة في الحياة حين يستقر الأمن والسلام ويأمن الناس شر ومكر الأعداء.

فعاد من الواجب على كل أسرة تريد أن تعيش حياة مستقرة متآلفة أن تجعل من التسامح في التعامل بين أفرادها شعاراً ترفعه ومنهجاً في حياتها تترسمه، حينها تجد نفسها قادرة على تجاوز كل العقبات وحل كل المشاكل، بعيدة عن كل ما ينغّص العيش من الضغائن والأحقاد، التي تفرق الجمع وتشتت الشمل.

وكذلك سائر الجماعات والأحزاب والفرق الإسلامية لا سبيل لها أن تكون أمة واحدة تتساوى دماؤهم ويسير بذمتهم أدناهم وهم يداً واحدة على من كفر بالله كما أرادهم رب العالمين، ووصفهم بهذا نبيهم العظيم، دون أن يترفعوا عن العصبية والمصالح الشخصية الدنيوية، وتصفو قلوبهم من كراهية وعداء، ويستبدلوها بالمحبة والوفاء.

وبمثل هذا يجتمع شمل الأمة ويهيئ الله لها أسباب التوفيق والهداية، فبمجرد قيام مثل هذه الإرادة الصادقة المخلصة، يبارك الله فيها ويحقق لها كل أمانيها، فالله سبحانه وتعالى يقول: )إِنْ يُرِيـدَا إِصْـلاحاً يُوَفِّقِ اللَّـهُ بَيْنَهُمَـا إِنَّ اللَّهَ كَـانَ عَلِيمـاً خَبِيـراً(سورةالنساء:آية35 .

اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، واجعلنا ممن توليتهم فهديتهم ومن ثم اجتبيتهم واصطفيتهم لحمل أمانتك وتبليغ رسالتك، والوفاء بعهدك والفوز برحمتك في الدنيا والآخرة، إنك أنت القدير، وبالإجابة جدير.

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومـن تبعهـم بإحسان إلـى يـوم الـدين۔

قائِمـة المراجــِع والمصــادِر

  1. القـرآن الكريم
  2. إبراهيم وآخرون، المعجـم الوسيط،مجمع اللغةالعربية،مطبعةمصر،1961م.
  3. إبن أبي شيبه, عبد الله بن محمـد الكـوفي (ت235هـ)،الكتـاب المصنف في الأحـاديث والآثـار،دار الفـكر، بيـروت،1988م
  4. ابن شبة، تاريخ المدينة، دار العليان جريدة ط1
  5. ابن عاشور،مقـاصد الشريعـة الإســلامية، دار السـلام، ط2، 2007م.
  6. ابن عجيبة.البحرُ المديـد، ت أَحمد رَسلان، مصر،ط1،1419هـ
  7. ابن فارس. أحمدبن زكريا أبوالحسين (توفي395هـ) معجم مقاييس اللغة، ت عبـدالسلام هـارون، مكتب الخانجى، مصر،ط3،1981م.
  8. ابن يزيد. أبو عبدالله محمد القزويني (ت275هـ)، سُنَنُ ابـن ماجة،بيروت،ت عبد الباقي،دار الـفـكر
  9. إدوار غالي الدهبي،معاملة غــير المسلمين، مكتبـة غريـب، مصر، ط1،1993م
  10. الاصبهاني. أحمد بن عبد الله أبو نعيم (ت430هـ)،حليَةُ الأوليــاء وطبقات الأصفيــاء، ودلائل النبوة، القاهرة 1397هـ
  11. الباشا عبد الرحمن، صُـوَرٌ مِن حَياة التــابعين، دار الأَدَبِ الإســلامي،القاهرة، ط15،1418هـ
  12. البستي. أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي (ت354 هـ),صحيح ابن حبـان بترتيــب ابن بلبــان, ت الأرنؤوط,مؤسسة الرسالة,(ط2) بيروت, 1993هـ
  13. البغدادي. علاء الدين الخازن (ت741هـ)، تفسيــر الخـازن، المكتبة التجارية الكبرى بمصر 1961م.
  14. البيهقي. أحمد بن الحسـين (توفي 458هـ)، السُّنَـن الكبـرى، دائرة المعارف النظامية
  15. البيهقي. أحمد بن الحسـين (توفي 458هـ)،دلائـل النبوة،ت قلعجي،دار الكتـب العـلمية،بيروت،ط1،1985م.
  16. توفيق سلطان، تاريخ أهل الذِّمَّة في الـعــراق،الرياض، ط1،دار العـلوم، 1403 هـ
  17. توماس آرنولد، الـدعوة إلـى الإسـلام، ترجمه إبراهيـم حسـن،مكتبَـة النـهضَه،ط3،مصر،1970م
  18. الجعفي.محمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ)،الجامع الصحيـح المختصـر، ت مصطفى البغا، دار ابـن كثير,بيروت، ط3، 1987م
  19. الحاكم النيسابوري.محمد بن عبدالله(ت405 هـ),الـمُسْتَدرك على الصحيـحيـن, ت مصطفى عطا, الكتـب العلمية, بيروت, ط1،1990م الدر المنثور
  20. الدمشقي. أبو الفداء إسماعيل بن عمر ابن كثير (ت774هـ)، تفـسير القـرآن العـظيــم،دار الفكر،بيروت،1401هـ
  21. الدمشقي. أبو الفداء إسماعيل بن عمر ابن كثير (ت774هـ)،البداية و النهايـة،دار الحديث،ط7
  22. الرازي. محمد بن عبد القادر (ت721هـ)،مختـار الصَّحَاح،ت محمود خاطر،مكتبة لبنان، بيروت،1995م
  23. الراغب الأصفهاني المفردات، مطبعة مصطفى الحلبي، الطبعة الأخيرة1381هـ
  24. زيغريد هونكه، شَمْـسُ العَرَبِ تَسـطـع علـى الغـرب،ت بيضون ودسوقي،بيروت،دار صـادر،ط10،1423هـ
  25. السلمي. محمد بن عيسى الترمذي (ت279 هـ),الجـامع الصَّحِيـح, ت: أحمدشاكر وآخرون, دار إحياء التراث العربي،بيروت
  26. الشافعي. أبو الفضل أحمد بن حجر العسقلاني (ت852هـ)،فَتْحُ البـاري، ت عبدالباقي والخطيب،دار المعرفة،بيروت،1379هـ
  27. الطاهر الزاوي. ترتيب القاموس، دار الكتـب العِلمِيَّـة،ط2،بيروت، 1399هـ
  28. العَسْقَلانِي. ابن حجر أحمد بن علي(ت852هـ)،فتح الباري شـرح صحِيحِ البخاري ،ت محمد عبد الباقي والخطيب،دار المعرفة،بيروت،ط2
  29. علي الهيثمي (توفي807هـ)، مَـجْمَـع الزوائـد و مَنْبَـع الفوائـد، القاهرة – وبيروت، دارالريان للتـراث، والكتـاب العــربي، 1407هـ
  30. غوستاف لوبون، حضارة العرب، إحيَـاء التُـراث العَرَبــي، ت زعيتر،ط3،بيروت،1399هـ
  31. الفراء البغوي. أبو محمد الحسين بن مسعود (ت516هـ)،معـالم التـنزيـل، ت محمد وآخرون، دار طيبة، ط4، 1997 م
  32. المعافري. ابن هشام أبو محمد عبد الملك،السيـرة النبويـة، ت محمَّد محيي الدين، مطبعة حجازي
  33. المعافري. ابن هشام عبد الملك (ت213هـ)، السيـرة النبويـة، دار إحياء التراث ، بيروت
  34. النيسابوري. أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري (ت261هـ)،صحيـح مسـْلم، ت عبدالباقي،بيروت، إحيـاء التُـرَاث
  35. الواقدي. محمد بن عمر، فتوح الشام، دار الجيل بيروت، ط1

 

حوالہ جات

  1. - ينظر ابن فارس. كتاب معجم مقاييس اللغة ص99
  2. - الطاهر الزاوي. ترتيب القاموس، ص608
  3. - إبراهيم مصطفى وآخرون. المعجم الوسيط، ص499.
  4. - ينظر ابن حجر. فتح الباري ص94
  5. - محمد البخاري. الجامع الصحيح، (ح ر) 1970 ج2 ص730
  6. - الراغب الأصفهاني. المفردات، ص282.
  7. - إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط ، ص 926
  8. -الرازي. مختار الصحاح ص 312
  9. - ابن عاشور. كتاب مقاصد الشريعة، الناشر دار السلام ، ط2، 1428هـ، 2007.
  10. - السيوطي.الدر المنثور ج2 ص323 ، المستدرك على الصحيحين حديث رقم 178 ج1 ص121، سنن الترمذي ج4 ص355
  11. - المستدرك على الصحيحين حديث رقم 3912 ج2 ص563
  12. - صحيح مسلم حديث رقم 2599 جـ5، ص687
  13. - البخاري، صحيح،الحديث رقم5727،ج5،ص2256. صحيح الإمام مسلم الحديث رقم2506ج4 ص1984
  14. - ينظر كتاب المستدرك على الصحيحين، حديث رقم4322جـ3،ص31
  15. - أخرج الحديث ابن ماجة، 2105 وأبو نعيم في دلائل النبوة ص520 والحاكم ص604 والبيهقي ج6، ص52 وغيرهم.
  16. - ابن هشام. السيرة النبوية، تحقيق محيي الدين ، مطبعة حجازي، ج1، ص416-417
  17. - ابن شبة، تاريخ المدينة،دار العليان،ط1ج2ص98.
  18. - ابن هشام السيرة النبوية،ط1ج4 ص61.
  19. - غوستاف لوبون ، حضارة العرب، ط3ص720.
  20. - توفيق سلطان، تاريخ أهـل الذَّمَة في العـراق،الرياض،ط1،ص70.نقلاعن نظرات في تاريخ الإسلام،دوزي،ص411.
  21. - إدوار غالي الدهبي، معاملـة غيـر المســلمين في المجتمـع الإِسـلامي،ص49.
  22. - عبد الرحمن الباشا، صور مـن حَيَـاة التَـابعين،دار الأدب الإسـلامي،ص420. وينظر زيغريد هونكه ، شمـس الـعَرَب تسـطُع علـى الغـرب،ص364.
  23. - الواقدي محمد بن عمر، فتوح بلادالشام،ص8.
  24. - ينظر الواقدي فتوح الشام، ط1 ص146.
  25. - ينظر الواقدي، فتوح الشام، ط 221-226.
  26. - توماس آرنولد، الدعوة إلى دين الإسلام،ص73
  27. - صحيح ابن حبان م 16 مع تعليقات الأرنؤوط الرسالة - ج 9 ص 257. وينظرتفسير ابن كثير م 4 - ج 7 ص 134 معالم التنزيل البغوي م 8 دار طيبة - ج 1 ص 344 تفسير الخازن ـ موافق للمطبوع – ج1، ص 301
  28. - ابن هشام السيرة النبوية ج2ص184.
  29. - ينظر، أبن كثير البداية والنهاية، دار الحديث، ط7، ص231-233.
  30. - البداية والنهاية ط8 ص39.
  31. - أبو نعيم الأصفهاني، دلائل النبوة، ص486. مصنف ابن أبي شيبة ت سعيد اللحام م - ج 7 ص 512 السنن الكبرى البيهقي حديث رقم12275 دائرة المعارف النظامية - ج 6 ص 165 صحيح ابن حبان م18 ت شعيب الأرنؤوط مؤسسة الرسالة حديث رقم 6964ج 15 ص 418
  32. - فتح الباري صحيح البخاري ، ط8، ص107، صحيح مسلم ط1،ص82.
Loading...
Issue Details
Id Article Title Authors Vol Info Year
Id Article Title Authors Vol Info Year
Similar Articles
Loading...
Similar Article Headings
Loading...
Similar Books
Loading...
Similar Chapters
Loading...
Similar Thesis
Loading...

Similar News

Loading...