Search from the Journals, Articles, and Headings
Advanced Search (Beta)
Home > Journal of Islamic and Religious Studies > Volume 3 Issue 2 of Journal of Islamic and Religious Studies

أسلوب التوكيد في تفسير أبي السعود |
Journal of Islamic and Religious Studies
Journal of Islamic and Religious Studies

التمهيد:

لا شك أن موضوع التوكيد من الموضوعات التي اهتم به كل من البلاغيين والنحاة اهتماما كبيرا، وإنما ذلك لأهمية هذه الظاهرة ومكانتها بين الظواهر الأخرى اللغوية والبلاغية. وتعني هذه الظاهرة في الدرس اللغوي والبلاغي الظواهر التركيبية التي تأتي لتقوية الكلام وتقريره وتثبيته سواء أكان الكلام على مستوى المفرد أو الجملة. وقد نص الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابه – دلائل الإعجاز- على أهمية دورها في توثيق المعاني وتقويتها، وتثبيتها عند المخاطب، ورعاية الانسجام مع المواقف، وأنه فصل الكلام في بيان صور التوكيد وأساليبه ودواعيه المختلفة التي يقتضيها المقام والمخاطب.[1] ونجد الإمام الزركشي في البرهان يذكر ثمانية وعشرين نوعا لأساليب التوكيد في كتاب الله عز وجل، ونراه يصفه- التوكيد- بأنه غرة الكتيبة، وأول الجريدة، وبيت القصيدة، وواسطة القلادة، وإنسان الحدقة، ودرة التاج، وأنه المقصود الأعظم من هذا الكتاب.[2] ومما يدل على أهميته عند النحاة أن العلامة ابن جني أدرجه في خصائص اللغة العربية، وسماه" الاحتياط" ثم ذكر له صورا وأساليب كثيرة، في كتابه "الخصائص".[3]

ثم نلاحظ أن هذه الظاهرة يكثر ورودها في القرآن الكريم، وقد عنى البلاغيون بإبراز دواعيها وأسبابها، ودراسة أساليبها في كتاب الله عز وجل، وعلى رأسهم الإمام عبد القاهر، ثم تابعه العلامة الزمخشري في تفسيره-الكشاف-، بل أنه أكمل ما بدأ به الإمام عبد القاهر، ومهد الطريق إلى تطبيق القواعد البلاغية وأصولها على النص الإلهي المقدس المعجز. ثم صار على نهجهما كثير من المفسرين، فنراهم يلخصون، ويمحصون، ويزيدون ويعلقون على ما أفاد به الإمام عبد القاهر، والعلامة الزمخشري، وفي مقدمة هؤلاء: الإمام البيضاوي، والعلامة أبوسعود.

لذلك أردنا في هذا المقال أن ندرس ظاهرة التوكيد من ناحية المفهوم، ومن ناحية دواعيها وأساليبها المختلفة في القرآن الكريم عند العلامة أبي السعود، كما نتعرض لآراء وأفكار، نستطيع أن نجعلها من ابتكارات أبي السعود في هذا الميدان. وسنستنتج من كل ما نورد به في هذا البحث أن العلامة أبا السعود لم يكن أقل اهتماما بالأمور البلاغية في تفسيره، وأنه لم يكن متابعا وناقلا عن الزمخشري، والبيضاوي فقط، بل كان مبدعا وناقدا. وقسمنا البحث إلى تمهيد ومبحثين وخاتمة. تناولنا في التمهيد مفهوم التوكيد لغة واصطلاحا، وفي المبحث الأول تعرضنا لدواعي التوكيد وأسبابه عند البلاغين والعلامة أبي السعود، أما المبحث الثاني فقد درسنا فيه عناصر التوكيد وأساليبه عند العلامة أبي السعود، وفي الخاتمة ذكرنا نتائج البحث وبعض الاقتراحات. والله الموفق.

التمهيد: مفهوم التوكيد لغة:

التوكيد في الأصل مصدر" وكد" بتشديد الكاف من باب التفعيل، كما يقول ابن المنظور: وكد العهد والعقد: أوثقه، والهمز "أوكد" فيه لغة، وهو في العقد أجود، وتقول: "إذا عقدت فأكد، وإذا حلفت فوكد". كما يقال: أكدته، وآكدته، وأوكدته إيكادا، أي: شددته، وبالواو أفصح. [4]فالتأكيد والتوكيد لغتان، وقد جاء في القرآن الكريم بالواو في قوله تعالى: "وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها"[5]. ويرى الزجاج[6] أن الهمزة أبدلت من الواو، وهو ليس بصحييح، لأن التصريف جاء بالتركيبين، وهذا دليل على أنهما أصلان مستقلان.[7] ولقد صرح ابن يعيش في شرح المفصل على أنهما- بالهمز والواو- لغتان، وليس أحد الحرفين بدلا من الآخر، لأنهما يتصرفان تصرفا واحد، يقول أهل اللغة: "أكد يؤكد تأكيدا"، و"وكد يوكد توكيدا"، كما لم يكن أحد الاستعمالين أغلب، فيجعل أصلا، فلذلك نقول: إنهما لغتان. [8]وتظهر ثمرة التوكيد في إزالة الشكوك وإماطة الشبهات التي ترد إلى الكلام وإلى ذهن المخاطب. وقد جاء في لسان العرب نقلا عن أبي العباس المبرد، أنه يرى، أن للتوكيد مداخل ومراتب، فهو يدخل في الكلام لإخراج الشك وفي الأعداد لإحاطة الأجزاء، لذلك إذا قلت: كلمني أخوك، فيجوز أن يكون كلمك هو، أو أمر غلامه بأن يكلمك، فإذا قلت: كلمني أخوك تكليما، لم يجز أن يكون المتكلم لك إلا هو.[9]

وهكذا نلاحظ أن المعاني التي تنحدر من مادة "وكد" هي الثبوت والتقرير والتمكين، والتشديد، وهذا هو الغرض من التوكيد في الكلام، أي تقريره وتقويته وتشديده.

التوكيد اصطلاحا:

لم يذكر علماء البلاغة تعريفا اصطلاحيا علميا للتوكيد بحيث يوصف بالجامع والمانع أو المطرد والمنعكس على حد تعبير علماء المنطق والفلسلفة. لكننا يمكن لنا أن نشير ونستأنس بما ذكر العلوي[10] من تعريف للتوكيد في طرازه، حيث قال: إن التأكيد، هو: تمكين الشيء في النفس، وتقوية أمره فيه، وفائدته إماطة الشبهات وإزالة الشكوك عما يكون المتكلم بصدده، وهو دقيق المأخذ، كثير الفوائد...."[11] وكذلك بما جاء به المراغي[12] في كتابه – علوم البلاغة- حيث قال: التوكيد، هو: "تمكين الشيء في نفس وتقويته، وإماطة الشبهات عما أنت بصدد الإخبار عنه..."[13] ولا يخفى على القارئ توافق المراغي العلوي في التعريف حتى يكاد يجزم أنه أخذ التعريف عن العلوي بلفظه وعبارته.

المبحث الأل: دواعي التوكيد وأغراضه البلاغية:

حصر المتأخرون من علماء البلاغة العربية دواعي التوكيد في مواجهة إنكار المخاطب التحقيقي أو الاعتباري، بقولهم إن المخاطب إذا كان خالي الذهن من الحكم والترددفيه، فحالته تغني المتكلم في صياغة الكلام عن المؤكدات، كقولنا: "جائني محمد" و"أكرمت عليا" لخالي الذهن، لأن الخبر سيتمكن في ذهنه من دون أي توكيد، لمصادفته إياه خاليا. وإذا كان المخاطب مترددا في الحكم، أي: في إسناد أحد الطرفين إلى الآخر، فحسن البلاغيون في هذه الحالة تقوية الخبر بمؤكد، كقولنا: "لمحمد قائم" أو "إن محمدا قائم". أما إذا كان المخاطب منكرا للحكم، فحالته تقتضي أن يقدم إليه الكلام مؤكدا. والتوكيد هنا ضروري. ومن هذا المنظور قسم البلاغيون الخبر إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول، هو: الخبر الابتدائي، والثاني، هو: الطلبي، والثالث، هو: الإنكاري. ثم نلاحظ أن التوكيد يتفاوت قلة وكثرة، حسب ما تستدعيه أحوال إنكار المخاطب، فإن كان إنكاره إنكارا مستحكما قويا زادت عناصر التوكيد بمقدار تزايد حالة الإنكار، لأن وظيفة الخبر حينئذ، هي: تمكين هذا المعنى وتثبيته في تلك النفس المنكرة الرافضة له، فلا بد من أن تكون وثاقة العبارة وقوتها في الدلالة ملائمة لحال النفس، وأن تكون قادرة على إقناعها، وإن كان إنكاره غير مستحكم في نفسه كفى بمؤكد واحد. ومن أوضح الشواهد على هذا الأصل النفسي الدقيق في بناء الأسلوب، ذلك المشهد القرآني الذي يصف لنا حوار المرسلين مع أصحاب القرية في سورة يس.[14] قال الله تعالى: "وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ"[15]

نلاحظ في الآية الكريمة أن خطاب الرسل-عليهم السلام- لأصحاب القرية في الصورة الأولى ورد مؤكدا بــ"إن" و"إسمية الجملة"، وذلك لأنهم أنكروا رسالتهم، حيث يدل عليه قوله عز وجل: "فكذبوهما"، وبعد هذا الخطاب الأول رد أصحاب القرية قول الرسل، بقولهم: "مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا" أي لستم رسلا، بل أنتم بشر مثلنا، لأنهم كانوا يعتقدون أن الرسل لا يكون بشرا، وهو كما نلاحظ أسلوبا مؤكدا بالنفي والاستثناء، ثم أتوا بقولهم: "وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ"، وهذا تأكيد آخر على نحو أبلغ لنفي الرسالة عنهم، لأنهم أنكروا في هذه الجملة الثانية بأن الله لم ينزل شيئا عليهم وعلى غيرهم، ثم أتوا بعد ذلك بمقولتهم: "إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ" فوصفوا رسل الله الأبرياء بالكذب بهذا الأسلوب المؤكد-بالنفي والاستثناء-، فبعد هذا العناد والتمادي والتطاول والإنكار، رد الرسل الكرام عليهم بقولهم: "رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ". نجد ألوانا جديدة من التوثيق والتوكيد التي أضافوا إلى صياغتها، فهي كما نرى مؤكدة بـــــ"إن" و"إسمية الجملة" و"اللام" ومصدرة بقولهم: "رَبُّنَا يَعْلَمُ". كما نجد هنا ضرب آخر من التوكيد، وهو: أنهم عادوا في هذه الجملة إلى القضية الإولى، أي: بأنهم مرسلون إليهم، وكرروها، والتكرار أسلوب من أساليب التوكيد. [16]فقد اتضح إذن كيف تتكاثر عناصر التوكيد في هذا الحوار القرآني وفقا لتصاعد أحوال الإنكار.

وذكر علماء البلاغة هذا النمط من تقديم الخبر إلى المخاطب بأضرب الخبر الثلاثة. وجعلوا نظم الكلام على هذا المنوال مطابقا لمقتضى الحال، أما إذا كان الكلام خارجا عن هذه الاعتبارات الثلاثة جعلوه غير مطابق لمقتضى الحال، صرح بذلك العلامة السكاكي في مفتاح العلوم.[17]

ومن هذا المنطلق يظهر أن دواعي التوكيد تنحصر في هذا الإطار الضيق، وهو مواجهة إنكار المخاطب حقيقة، أو اعتباريا، والأمر ليس كذلك فإننا نجد العلامة السكاكي ينص بأن دواعي تقديم الكلام مؤكدا كثيرة لا تنحصر في مواجهة المخطاب بحالاته الثلاثة، بل توجد هناك مذاقات أخرى كثيرة لأصحاب هذا الفن الجليل يؤكدون الكلام تارة ويرسلونها أخرى. والقرآن الكريم أخصب مرجعا لمعرفة دواعي التوكيد وأسراره البلاغية، يقول السكاكي:" ثم إنك ترى المغلقين السحرة في هذا الفن، ينفثون الكلام لا على مقتضى الظاهر كثيرا، وذلك إذا أحلوا المحيط بفائدة الجملة الخبرية وبلازم فائدتها علما محل الخالي الذهن عن ذلك لاعتبارات خطابية، مرجعها تجهيله بوجوه مختلفة، وإن شئت فعليك بكلام رب العزة"[18]

وهذا يدل على أن دواعي التوكيد لا تنحصر في مواجهة إنكار المخاطب حقيقي أو اعتاري، بل توجد هناك أسباب أخرى تستدعي المتكلم أن يصوغ كلامه مؤكدا حسب يقتضيه الحال والمقام.

دواعي التوكيد وأغراضه البلاغية عند أبي السعود:

نجد العلامة أبا السعود في تفسيره يوسع دائرة دواعي التوكيد التي تجاوزت هذا الأفق الضيق الذي حددته علماء البلاغة بناء على إجابة أبي العباس المبرد على سؤال المتفلسف الكندي، ويذكر كثيرا من البواعث والدواعي لأسلوب التوكيد في تفسيره، وسنحاول أن نجمع تلك الدواعي حسب تتبعنا واستقراءنا في تفسيره، ونذكرها في سطور تالية.

التوكيد لإظهار كمال الاعتناء بضمون الجملة:

قد يؤكد المتكلم كلامه لإبراز كمال الاعتناء بمضمون الجملة، وقد أشار إلى ذلك أبو السعود في مواضع كثيرة، وبعد الاستقراء نستطيع أن نقول إن هذا الغرض من التوكيد يؤتى به إذا كان المتكلم يريد أن يلفت أنظار المخاطبين إلى مدلول تحتوي عليها تلك الجملة المؤكدة، وإن لم يسبقه إنكار المخاطبين. مثاله قوله-تعالى-:"إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ"[19] فسر العلامة أبو السعود الآية الكريمة بأنها كلام مستأنف سيق لتوطين قلوب المؤمنين ببيان أن الله-تعالى- ناصرهم على أعدائهم، بحيث لا يقدرون على صدهم ومنعهم عن الحج، ليتفرغوا إلى أداء مناسكه. وتصدير الكلام بحرف التحقيق، أي: "إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ" لإبراز الاعتناء التام بمضمونه.[20] ثم جعل العلامة كثيرا من التراكيب القرآنية المحتوية على أساليب التوكيد من هذا القبيل، منها قوله تعالى: "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ"[21] قال العلامة أبو السعود في قوله تعالى: "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض" هذا استئناف جار مجرى التفسير للمجمل الموعود، ورد مؤكدا بحيث صدر بكلمة التأكيد-إن- والغرض من ذلك، الاعتناء بتحقيق مضمون ما بعده. أي: "أنه تجبر وطغا في أرض مصر وجاوز الحدود المعهودة في الظلم والعدوان".[22] ومن ذلك قوله تعالى: "وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وجاعلوه مِنَ المرسلين"[23] قال العلامة أبو السعود في تفسير الآية الكريمة: الجملة- إِنَّا رَادُّوهُ....- تعليل للنهي المسبق عن الخوف والحزن-ولا تحزني- وصياغة الكلام في صورة الجملة الاسمية، وتصديرها بحرف التحقيق للاعتناء بتحقيق مضمونها. أي: "إنا فاعلون لرده وجعله من المُرسلين لا محالة."[24]

لقد نص العلامة أبو السعود أن الكلام ورد مؤكدا بتوكيد وأكثر في بعض هذه الآيات المذكورة آنفا، وداعي التوكيد هو أن الله-تعالى- أراد أن يظهر اعتناءه بتحقيق مضمون هذا الكلام، لأن لا يخطر بباله شك أو ريب في عدم تحقيقه، وليزيل كل الشكوك والأوهام من أول وهلة، وليثبت أن تحقيق ذلك الأمر أمر مقضي وأنه سيقع لا محالة. فالتوكيد جاء ليقرر المعنى في نفس المخاطب وليثبته وإن كانت خالية من أثر التردد والإنكار.

التوكيد لإظهار رغبة المتكلم ووفور النشاط بتحقيق مضمون الجملة:

توجد هناك ضروب من التوكيد، قد أشار إليها البلاغيون، وهي التي لا ينظر فيها المتكلم إلى حال المخاطب، وإنما ينظر فيها إلى حال نفسه-المتكلم-، وإلى مدى انفعاله بتلك الحقائق التي أراد صياغتها، وإلى حرصه على إذاعتها، وتقريرها في النفوس كما هو أحسها مقررة مؤكدة في نفسه، ويكثر هذا اللون في التراكيب العربية جدا وله مذاقات حسنة.[25]

نجد العلامة أبا السعود يشير إلى هذا الضرب من التوكيد في التراكيب القرآنية، وأكثرها آيات الأدعية، نحو قوله تعالى: "رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ"[26] ومثل قوله تعالى:"رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ"[27] يرى العلامة أبو السعود أن الدعاء في الآيتين الكريمتين قدمت بالنداء-ربنا- لإظهار كمال الضراعة والابتهال، أما التأكيد بــ"إن" في الموضعين، فهو للإيذان بصدور المقال عنهم بوفور الرغبة وكمال النشاط.[28]

نستطيع أن ندرك مما أفاد به العلامة أبو السعود أن هذا التأكيد ينظر فيه إلى حال النفس الداعية الراجية، ويدل على مدى انفعالها بهذا الرجاء والدعاء والتضرع، وتأكيدها لهذا يدل على أن السائل لديه رغبة كاملة في تحقيق ما يريده من ربه عز وجل أن يحققه له. ومن الأمثلة الواضحة على هذا النوع من دواعي التوكيد، هو قول أبي السعود في قوله تعالى حكاية عن المجرمين الذين يقومون أمام الله تعالى ناكسي رؤوسهم، "وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ"

أشار العلامة أبو السعود إلى أنهم أكدوا الكلام بالجملة الإسمية المؤكدة بـــ"إن" ليس لمواجهة الإنكار أو التردد من المخاطب بل إظهارا لثباتهم على الإيقان الحاصل بعد ما رأوا وسمعوا من الحقائق، وإيذانا لكمال رغبتهم في استجابة ما سألوه.

اتضح من هذه الأمثلة أن الكلام قد يؤكد لحالات واعتبارات ينظر فيها إلى حال المتكلم ذاته، لا إلى حال المخاطب الذي ينظر إليه في غالب الأحوال.

التوكيد لوجوب الامتثال على الأمر الذى يشتمل عليه الكلام:

ذكر العلامة أبو السعود أن الكلام قد يؤكد في القرآن الكريم ليدل على أن الامتثال بما أمربه واجب والاتيان به ضروري لا مفر منه، وليتنبه المخاطب إلى امتثاله. فقد أشار إلى ذلك في قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ"[29] يرى العلامة أن الكلام ورد مؤكدا بــ"إن" ليدل على وجوب الامتثال بالأمر بقبول دعوة الإيمان ببيان استحالة المغفرة بدونها.[30] ونحو ذلك في قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا"[31] يرى العلامة أبو السعود أن الآية الكريمة احتوت على توكيدات للدلالة على وجوب الامتثال على ما اشتملت الآية الكريمة من الحكم والأمر، ومجموعة التوكيدات الواردة في الآية هي: تصدير الكلام بكلمة التحقيق- إن- وإظهار الاسم الجليل، أي: أسلوب وضع الظاهر موضع المضمر. وإضافة إلى ذلك ورود الحكم على صورة الإخبار مما يدل على الفخامة، والتأكيد على وجوب الامتثال به، والدلالة على الاعتناء بشأن المأمور به، ما لا يخفى على أحد.[32]

التوكيد للإيذان بأن مضمونها مما لا يصدق وقوعه:

وقد يكون الداعي للتوكيد الإيذان من جانب المتكلم بأن مضمون الكلام مما لا يصدق وقوعه، لكمال بعده من العقل، فيؤكد الكلام ليدل على كمال شناعته وليظهر كمال بعده من العقول، وليقرر في ذهن المخاطب أنه عمل في غاية الشناعة لا يتصور وقوعه من مخلوق يعقل ويشعر. وقد صرح بذلك العلامة أبو السعود في قوله تعالى: "أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ"[33] أشار العلامة أبو السعود في تفسير الآية الكريمة إلى أمرين، الأول: أن الآية بيان لما يأتونه من الفاحشة بطريق التصريح، والثاني: أن الآية احتوت على تأكيدين- إن واللام-، والغرض من التوكيد هنا، "الإيذان بأن مضمونها مما لايصدق وقوعه أحد لكمال بعده من العقول".[34]

من الواضح جدا أن العلامة تناول وجه التأكيد في الآية الكريمة لإظهار هذه الحقيقة بأن العادة المشار إليها في الآية الكريمة شنيعة إلى أقصى الحد، وسيئة إلى أبعد المدى، حتى لو عُرض بيانها بدون التأكيد، فلعل المخاطب يتردد ويشك في وقوعها، ولإجل ذلك جاء بيانها مؤكدا مشددا. كذلك كرر رأيه في قوله تعالى من سورة الأعراف: "إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ"[35] ومما لاحظنا في أسلوب العلامة الإحصائي أنه يحلل الآيات الكريمة تحليلا مستوعبا، لا يمر بكلمة إلا يكشف عن سرها المكنون، فقال في تحليل هذه الآية، أنها خبر مستأنف لبيان تلك الفاحشة الشنيعة على أنه تأكيد للإنكار السابق وتشديد للتوبيخ. واشتملت الآية بــ"إن" و"اللام" للدلالة على مزيد توبيخ وتقريع، كأن تلك الفاحشة أمر لا يتحقق صدوره عن أحد، فيؤكد تأكيدا قويا. ثم ذكر سرا لم نجد له أثرا عند صاحب الكشاف والبيضاوي، وهو: أن إيراد لفظ الرجال –إنكم لتأتون الرجال- دون الغلمان والمردان مبالغة في التوبيخ والتقريع.[36]

التوكيد لتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة:

ذكر العلامة أبو السعود أن التوكيد قد يأتي ليحقق المعرفة عند المخاطب ويزيل الشك ويميط الشبهة من أول وهلة، لا لأنه كان منكرا أو مترددا من قبل فأكد الكلام وجوبا في صورة الإنكار واستحسانا في صورة التردد، بل يقدم إليه الكلام مؤكدا من بداية الأمر لتحقيق الحق والمعرفة لديه وإماطة الشبهة عنده. أشار إلى ذلك في قوله تعالى: "إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى"[37] يرى العلامة أن تكرير الضمير المفيد للتوكيد في قوله عز وجل: "إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ" لتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة."[38] وقد سبق إلى هذا الرأي صاحب الكشاف كذلك.[39]

ويرى الدكتور أبو موسى أن التوكيد في مثل هذه المواضع يكون لغرابة الخبر، يقول في كتابه خصائص التراكيب: "وقد يكون التوكيد لغرابة الخبر، وحرص المتكلم على أن يؤنس به نفس المخاطب، وإن كانت لا تنكره، وإنما هي في حاجة إلى ما يهيئها لقبوله، ومنه قوله تعالى: "فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ"[40]، فقد أكد أني أنا الله رب العالمين ليؤنس نفس موسى عليه السلام بالخبر، ويحبط ما عساه يعلق بالنفس في مثل هذا الموقف، فقد انطلق عليه السلام ليأتي أهله بخبر، أو جذوة من النار لعلهم يصطلون، وبينما هو ذاهب إلى هذا الغرض، فجأه نداء الحق سبحانه من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة، وهذا موقف غريب فاحتاج إلى التوكيد، ومثله قوله تعالى يخاطب موسى عليه السلام لما رأى أفاعيل السحرة، وأوجس في نفسه خيفة قال له الحق: "لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى"[41] ، فأكد قوله: "إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى" بجملة من التوكيدات كما قال البلاغيون، ليزل وحشة نفسه في هذا المقام، وإن كان موسى عليه السلام مستوثق اليقين من وعد ربه."[42] ونرى أن ما أفاد به الدكتور أبو موسى هي نكتة بلاغية تشتمل عليها الآية الكريمة والنكت تتزاحم ولا غرابة في تعددها وتجمعها في نص واحد خاصة إذا كان النص في كلام الله عز وجل الذي يحمل في طياته دلالات وإيحاءات ونكت لا تنتهي أبدا.

التوكيد للتعجيب واستعظام أمر ما:

وقد يكون التوكيد للتعجيب واستعظام أمر ما، بحيث كان الأمر مثيرا للتعجب والدهشة، فيقدم المتكلم كلامه إلى المخاطب مؤكدا بدون ملاحظة ملامح الإنكار أو التردد من قبله، و يكون الداعي فيه أن يؤكد ذلك التعجيب فيه ويستعظم شأنه في نظرة المخاطب. ذكر العلامة أبو السعود هذه النكتة في قوله عز وجل: "قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا"[43] قال العلامة: "فإنى نسيت الحوت" "فيه تأكيد للتعجيب وتربية لاستعظام المنسي".[44] ثم أفادنا بسر آخر يؤكد بما أتى به في سر أسلوب التوكيد، وهو أن النسيان في الآية الكريمة وقع على اسم الحوت دون ضمير الغداء مع أنه المأمور بإتيانه- آتنا غدائنا- وذلك للتنيبة من أول الأمر على أنه ليس من قبيل نسيان المسافر زاده في المنزل، وأن ماشا هده ليس من قبيل الأحوال المتعلقة بالغداء من حيث هو غداء وطعام، بل من حيث هو حوت كسائر الحيتان، شاهدت منه أمور عجيبة، -واتخذ سبيله في البحر عجا-[45].

التوكيد لدفع احتمال المجاز:

والتوكيد كما يفيد دفع الإبهام والتردد والشك، كذلك قد يأتي لدفع احتمال المجاز. أشار إلى ذلك العلامة أبو السعود في قوله تعالى: "إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى"[46] يرى العلامة أن كلمة "يوحى" هي صفة مؤكدة أفادت رفع احتمال المجاز كما أفادت الاستمررا التجددي لكونها فعلا مضارعا.[47]

قد لاحظنا من خلال ما أوردنا من الأملثة أن نظرة أبي السعود إلى دواعي التوكيد وأغراضه هي: نظرة شمولية لا تحصر تلك الدواعي والبواعث في مواجهة إنكار المخاطب حقيقة أو اعتباريا كما فعله المتأخرون من علماء البلاغة، بل الثابت عنده أنها تكثر وتتزايد حسب ما يقتضيه الكلام. وما ذكره العلامة من الدواعي والأغراض لبناء التركيب مؤكدا، يمكن أن تكون قواعد وأصولا في ذاتها، وتطبق عليها النصوص الأدبية الأخرى غير القرآن الكريم.

المبحث الثاني: عناصر التوكيد وأساليبه:

ذكر أبو السعود في تفسيره ما يزيد على ثلاثين عنصرا من عناصر التوكيد، مشيرا إليها صراحة أوضمن تفسير الآية التي ورد فيها ذلك العنصر، متابعا فيها الزمخشري والقاضي البيضاوي وغيرهما من علماء اللغة والبلاغة. والمؤكدات كثيرة لايمكن الإحاطة بها فهناك عناصر تؤكد الجملة الفعلية وأخرى تؤكد الإسمية، وأداة يعتبرها علماء النحو زائدة- لاعمل لها في الإعراب- بينما يعدها علماء البيان مؤكدات لمضمون الجملة. كذلك توجد في اللغة العربية طرق بناء الكلام وأساليب نظمه تعطيه تقوية ووكادة، فالذكر قد يفيد توكيدا، والحذف قد يفيد توكيدا، والوصل والفصل، والتكرار، والاعتراض، والتذييل والالتفات، والتقديم والقصر والقسم وغيرها.

وما جاء في تفسير أبي السعود من مؤكدات الجملة الاسمية، هي: "إن" المشددة المكسورة الهمزة، و"أن" المشددة المفتوحة الهمزة، لكن العلامة اهتم اهتماما بالغا في كشف أسرار بلاغية للتوكيد بإن المكسورة، أما المفتوحة فقد صرح في موضعين من تفسيره بأنها تفيد التحقيق والتوكيد كــ"إن" المكسورة، ولم يحلل مواقعها مع أن لها مواقف شريفة في القرآن الكريم. لعله اكتفى بما أفاد به في مواضع "إن" لأنهما يؤكدان مضمون الجملة، ولذك سماهما حرفي الحتقيق. وذكر منها: "لام" الابتداء، و"ضمير الفصل" و"هاء" التنبيه، و"ألا" الاستفتاحية، و"أما" الشرطية. وفي بعضها اكتفى العلامة بالدراسة النحوية، مثل: "لام الابتداء" وفي غيرها جمع بين الدراستين – النحوية والبلاغية-.

وبالنسبة لمؤكدات الجملة الفعلية، ذكر العلامة منها: "السين" و"سوف"، و"قد"، و"لن"، و"نونا التوكيد"، و"لام الجحود".

قد أشار العلامة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم لإفادة "السين" و"سوف" لتوكيد الوعد والوعيد، وأما بنسبة لـ"قد" فإنها تفيد التحقيق في الماضي والتقليل في المضارع، أما في الآيات التي وردت فيها "قد" مع المضارع فقد عدها للتكثير المفيد للتوكيد، وهي في دلالتها على التكثير مثل: "ربما". ومن المعروف أن دلالتها على التحقيق مع المضارع أمر مختلف فيه عند النحاة. وقد ذهب العلامة ابن عاشور أنها تفيد التحقيق مع المضي والمضارع ولا فرق بنيهما، ونرجح هنا قول صاحب الجني الداني، وهو: أنها تفيد مع الماضي، أحد ثلاثة معان: التحقيق، والتقريب، والتقوع، ومع المضارع أحد أربعة معان: التكثير، والتحقيق، والتقليل، والتوقع.

وفي "لن" يرى العلامة أنها تفيد التوكيد والتشديد في النفي، مثل "لا" غير في "لن" دلالة على زيادة التأكيد. وأنه فسر التراكيب الواردة فيها "لن" بما فسرها العلامة الزمخشري، مما ينبئ عن كونها مفيدة للتأبيد مع التأكيد، وهو خلاف للجمهور. أما العلامة ابن عاشور فقد صرح بكونها مفيدة للتأبيد والتأكيد، وبسط القول فيه مؤيدا رأي الزمخشري، لكننا رجحنا رأي الإمام الزركشي بأن الصحيح هو: أن "لا" و"لن" لمجرد النفي عن الأفعال المستقبلة، والتأبيد وعدمه يؤخذان من خارج، أي من السياق. وأما بانسبة لنوني التوكيد فلم نجد للعلامة إشارات كثيرة للكشف عن أسرارها البلاغية، رغم كثرة مجيء النون المشددة في التراكيب القرآنية.

وبالنسبة للتوكيد بالزوائد، جعل العلامة كثيرا من الحروف زائدة للتوكيد في القرآن الكريم، ومن المعلوم أن ظاهرة الزوائد اختلفت فيها آراء العلماء بين المجوزين والمنكرين. أما العلامة أبو السعود فهو من القائلين بجوازها ومجيئها في القرآن الكريم بشكل خاص، وفي اللغة العربية بشكل عام، وأنه قد جوز زيادة عدة حروف في القرآن الكريم، وصرح بها أنها زيدت لإفادة التوكيد، منها: "لا"، و "من"، و"الباء"، و"ما"، و"اللام"، و"أن".

وجدنا من خلال تتبع الأمثلة والشواهد عليها أن العلامة لم يكتف بالإشارة إلى زيادتها في موضع أو موضعين بل أشار إلى زيادة "الباء" فيما يقارب عشرين موضعا، في أكثر من ثلاثين موضعا لزيادة "ما".

ثم وجدنا عدة أساليب مفيدة للتوكيد عند أبي السعود، وأنها نالت عناية كبيرة عنده بالتحليل والشرح، والكشف عن أسرارها البلاغية، كالتوكيد بالتكرار، والتوكيد بالمصدر، والتوكيد بالصفة، والتوكيد بالاعتراض، والتوكيد بالحال. ومن الملاحظ أن للتكرار مواقع بديعة في التراكيب القرآنية، سواء أكان على مستوى المفرد، أو على مستوى الجملة، أو أجزائها، وقد وقف العلامة عند كثير من صوره على كافة مستوياته، لإبراز أسراره البلاغية في مواقعه ومقاماته، كمقام الوعيد، ومقام الوعظ والنصيحة، ومقام دفع الشبهة، ومقام الكف والنهي، ومقام ذكر مظاهر القدرة وغير ذلك.كذلك اعتنى العلامة كثيرا بالإشارة إلى أسلوب "الاعتراض" مفيدا للتوكيد، وأغراضها عنده: التقرير والتوكيد، والاعتناء، وإماطة الشبهة.

وقد نجد أمثلة كثيرة لعنصر واحد من عناصر التوكيد، ينص به أبو السعود ويشير إلى فائدته وأثره في المعنى مبينا سره البلاغي دون مرة، لكننا لا نتعرض له – وقد استخرجنا من تفسيره أمثلة كثيرة لكل عنصر في بحثنا المتقدم لنيل درجة الدكتوراة- بل نورد هنا بعض الأمثلة لنعرض صورة جلية لظاهرة التوكيد وأسراره البلاغية أمام القارئ.

يتحدث أبو السعود عن ضمير الفصل وحسن موقعه فى الجملة القرآنية المفيدة للتوكيد، قائلا في قوله تعالى: "أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ"[48] و"إن" المقررة للنسبة، وتعريف الخبر، وتوسيط ضمير الفصل، لرد ما في قصر أنفسهم على الإصلاح من التعريض بالمؤمنين.[49] يقصدبه قول المنافقين قبل هذه الآية، وهو: "قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ"[50] فعند ما قصروا أنفسهم على الإصلاح أي: أنهم هم المصلحون لا غيرهم، فجاء الرد مؤكدا بفنون التوكيد، وهي: ألا الاستفتاحية، وإن المقررة للنسبة، وتعريف الخبر، وتوسيط ضمير الفصل، ليكون ردا قاطعا لتعريضهم الباطل.

ومن حسن مواقعه التى أشار إليه أبو السعود، قوله تعالى: "أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ"[51] يقول العلامة: "وتصدير الجملة بحرف التنبيه-ألا- والإشارة بـ"ذلك" إلى بعد منزلة المشار إليه في الشر، وتوسيط ضمير الفصل-هو- وتعريف "الخسران" ووصفه بـ"المبين" من الدلالة على كمال هوله وفظاعته وأنه لا خسران وراءه مالا يخفى."[52] ومثل ذلك قوله فى آية من سورة المجادلة: "أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ"[53] يقول العلامة فى تفسير الآية: "أي الموصوفون بالخسران الذي لا غاية وراءه حيث فوتوا على أنفسهم النعيم المقيم وأخذوا بدله من العذاب الأليم. وفي تصدير الجملة بحرفي التنبيه والتحقيق- ألا وإن- وإظهار المضافين- الشيطان- معا في موقع الإضمار بأحد الوجهين وتوسيط ضمير الفصل-هم- من فنون التأكيد ما لا يخفى."[54]

وفي طريقة تحليله للآيتين الكريمتين دليل لنا على أسلوب العلامة وحرصه البالغ على كشف الأسرار البلاغية للنظم القرآني، سواء أكانت- تلك الأسرار- مدلولة ومفهومة من الكلمات التي احتوت عليها النظم الشريف في حالة الانفراد أو الاجتماع. ونكتفي بهذه النماذج لتناول العلامة أبي السعود القضايا البلاغية في تفسيره، وقد أوفينا الشرح والتفصيل في دراستنا للدكتوراة الذي يحمل عنوان: "التوكيد والتقديم والحذف ودلالاتها البلاغية في تفسير أبي السعود".

الخاتمة : النتائج والاقتراحات:

قد وصلنا من خلال هذا المقال إلى بعض النتائج والتوصيات، نورد مجملها فيما يلي:* لاحظنا في تفسير العلامة أبي السعود-من خلال هذا المقال- عناية كبيرة بإبراز الأسرار البلاغية لظاهرة التوكيد وغيرها من ظواهر هذا الفن الجليل، والإحاطة بمسائله وقضاياه، كما لاحظنا أيضا أن للعلامة رؤية تتسع وتفوق كل من عالج أوطبق القضايا البلاغية في مؤلفاته من المفسرين والبلاغيين.

  • أما في ظاهرة التوكيد فقد لمح لنا أن العلامة لم يحصر دواعي التوكيد وأغراضه في مواجهة إنكار المخاطب التحقيقي أو الاعتباري، بل أنه وسع دائرة دواعي التوكيد التي تجاوزت هذا الأفق الضيق الذي حددته علماء البلاغة. وبعد التتبع والاستقراء وجدنا فيما يقارب عشرة دواع وبواعث للتوكيد التي أشار إليها العلامة أبو السعود صراحة أوضمن تحليل الآيات الكريمة، وهي في الحقيقة تصلح أن تكون أصولا وقواعد لأن تبتنى عليها الأمثلة الأخرى، كما يمكن أن تطبق عليها النصوص الأدبية الأخرى غير القرآن الكريم.
  • وأما بالنسبة لأساليب التوكيد وعناصره، فقد وجدنا أن العلامة ذكر ما يقارب ثلاثين عنصرا للتوكيد محيطا بها في مؤكدات الجملة الإسمية والفعلية والتوكيد بالزوائد والتوكيد بالأساليب أو التوكيد بغير أدوات، وبناء على كثرة مواقفها الشريفة في الذكر الحكيم والحرص البالغ على إبراز أسرارها للعلامة أبي السعود يمكن القول بأن يدرس كل هذه الموضوعات بدراسات مستقلة وبحوث منفردة.
  • يمتاز تفسير أبي السعود بالأحاطة والاستيعاب للقضايا البلاغية الواردة في النص القرآني، حيث يقف صاحبه أمام النص القرآني متدبرا فاحصا، متأملا باحثا لاستنباط تلك المزايا البلاغية الكامنة في النص القرآني المعجز. حتى أسلوبه في استخراج المسائل البلاغية يشبه الإحصاء والاستقراء. ولذلك وجدنا تفسيره كنزا زاخرا للتطبقيات البلاغية.
  • أسلوبه يترواح بين التصريح بالأصل البلاغي وبين الاكتفاء بإيراد المعنى وفقاله، أي عدم التصريح بالقاعدة البلاغية، وهو غالب أسلوبه. ونرى أنه أليق وآكد بالنص القرآني، مع ذلك أنه طريقة المتقدمين-عبد القاهر الجرجاني، الزمخشري وغيرهما- في تحليل النص القرآني وغيره.
  • وبناء على ما اجتهد في استقصاء القضايا البلاغية واستخراج أسرارها ومزاياها في ألفاظ الآيات القرآنية وجملها، وأشار إلى مسائل بلاغية كثيرة في الآية الواحدة، يمكن لنا أن نوصي بتناول كل باب من أبواب علم المعاني لرسالة علمية قائمة برأسها، تحصي وتستقصي كافة جوانب الموضوع، في بابه. كما يمكن أن يقارن أسلوبه في تناول هذه الأبواب عنده وعند غيره، ليظهر تفوقه البعيد على الآخرين.

المنهج التعليمي البلاغي لا يزال يعتمد على الأمثلة الجافة من الجمل المقطوعة المصنوعة المتكلفة، وعلى الشواهد اليتيمة، التي ينقلها اللاحق عن السابق، في المدارس والكليات والجامعة- خاصة في باكستان- مما لا يشفي غليل الدارسين المبتدئين، ولا يمنحهم قدرة وملكة تطبيق القواعد على شواهد وأمثلة متشابهة، كما لا يزودهم بفهم دقيق للنصوص الأدبية – الشعرية والنثرية-، لذلك نوصي المدرسين والمعلمين للبلاغة العربية بالاستفادة من هذا التفسير لاحتوائه على الأمثلة والشواهد البلاغية المشروحة المقرونة بالتحليل والتعليل في مسائل علم البلاغة.

 

حوالہ جات

  1. انظر: دلائل الإعجاز، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني، ط3، 1992، مطبعة المدني، مصر، 1:315 Al Jurjānī, ‘Abdul Qāhir bin ‘Abdul Raḥmān, Dala’il al ‘Ijāz, (Egypt: Maṭba’ah al Madanī, 3rd Edition, 1992), 1:315
  2. البرهان في علوم القرآن، محمد بن عبد الله الزركشي، ط1، دار إحياء الكتب العربية، 2:382 Al Zarkashī, Muḥammad bin ‘Abdullah, Al Burhān fī ‘Uluwm al Qur’ān, (Dār Iḥya' al Kutub al ‘Arabiyyah, 1st Edition), 2:382
  3. الخصائص، 3:113 Al Khaṣa’iṣ, 3:113
  4. لسان العرب، ابن منظور، ط4، 1414هـ، دار صادر، بيروت، 3:466 Ibn Manẓuwr, Lisān al ‘Arab, (Beirut: Dār Ṣadir, 4th Edition, 1414), 3:466
  5. النحل: 91 Al Naḥal: 91
  6. الزجاج، هو: إبراهيم بن السرىّ بن سهل الزجاج النحوىّ ، (241-311 هـ)، ولد في بغداد وتوفي فيها، كان عالما بالنحو واللغة، وكان من أهل الفضل والدين وحسن الاعتقاد، وله مصنفات في اللغة والأدب من أشهر مؤلفاته: "معاني القرآن" إنباه الرواة على أنباه النحاة، علي بن يوسف، ط1، 1982م، دار الفكر العربي،مصر، 1:194 ‘Ali bin Yuwsuf, Inbāh al Ruwāt ‘Ala Anbā’ al Nuḥāt, (Egypt: Dār al Fikr al ‘Arabī, 1st Edition, 1982), 1:194
  7. دراسات لأسلوب القرآن الكريم، الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة، دت، دار الحديث، القاهرة مصر، 5:11 Dr Muḥammad ‘Abdul Khaliq, Dirasāt li Usluwb al Qur’ān al Karīm, (Egypt: Dār al Ḥadith), 5:11
  8. شرح المفصل، يعيش بن علي بن يعيش، ط1، 2001م، دار الكتب العلمية، بيروت ، 2:219 Ya’ish bin ‘Ali, Sharḥ al Mufaṣṣal, (Beirut: Dār al Kutub al ‘Ilmiyyah, 1st Edition, 2001), 2:219
  9. لسان العرب، 3:466 Lisān al ‘Arab, 3:466
  10. المُؤَيَّد (669-745هـ) هو: يحيى بن حمزة بن علي، الحسيني العلويّ: يعد من أكابر أئمة الجماعة الزيدية، ومن علمائهم في اليمن ولد في صنعا- اليمن، وأظهر الدعوة بعد وفاة المهدي – محمد بن المطهر سنة 729هــ ولقب بالمؤيد بالله، أو المؤيد برب العزة، واستمرت إمامته إلى أن توفي في حصن هران كرس حياته للتصنيف والتأليف، حتى يروى أن دفاتر تصانيفه تزيد على عدد أيام عمره و "الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز" من أهم تصنيفاته في علم البلاغة الأعلام، 8:143 Al A’lām, 8:143
  11. الطراز، يحيى بن حمزة بن علي، ط1، 1423هـ، المكتبة العنصرية، بيروت- لبنان، ص287 Yaḥyā bin Ḥamza, Al ṭirāz, (Beirut: al Maktabah al ‘Anṣuriyyah, 1st Edition, 1423), 287
  12. المَراغي، هو: أحمد بن مصطفى المراغي، من علماء مصر، كان مفسرا وفقيها وأديبا، وكان من متخرجي دار العلوم سنة 1909م، ثم عين مدرسا للشريعة الإسلامية هناك، ثم عين أستاذا للغة العربية والشريعة الإسلامية بكلية غوردن بالخرطوم- السودان، ألف عدة كتب، منها: الوجيز في أصول الفقه، وتفسير المراغي في ثمانية مجلدات، ورسالة عن الحسبة في الإسلام، وكتاب: علوم البلاغة – البيان، المعاني، البديع- توفي بالقاهرة
  13. مصطفى المراغي،علوم البلاغة -البيان، المعاني، البديع، ص:51 Muṣtafa al Murāghī, ‘Uluwm al Balaghah al Bayān, al Ma’ānī, al Badī‘, 51
  14. خصائص التراكيب، الدكتور محمد أبو موسى، ط7، مكتبة وهبة، القاهرة مصر، ص:81 Dr Muḥammad Abu Muwsa, Khaṣa’iṣ al Tarākīb, (Egypt: Maktabah Wahbah), 81
  15. يس:13-16 Surah Yāsīn: 1316
  16. خصائص التراكيب، ص:82 Khaṣa’iṣ al Tarākīb, 82
  17. مفتاح العلوم، محمد بن علي الخوارزمي السكاكي، ط2، 1987م، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 1:171 Al Sakakī, Muḥammad bin ‘Ali, Miftāḥ al ‘Uluwm, (Beirut: Dār al Kutub al ‘Ilmiyyah, 2nd Edition, 1987), 1:171
  18. مفتاح العلوم، السكاكي، 1:171 Al Sakakī, Miftāḥ al ‘Uluwm, 1:171
  19. الحج: 28 Surah al Ḥajj: 28
  20. أبو السعود، 6:108 Abu al Sa’ud, 6:108
  21. القصص: 4 Surah al Qiṣaṣ :4
  22. أبو السعود، 7:2 Abu al Sa’ud, 2:7
  23. القصص: 7 Surah al Qiṣaṣ :7
  24. أبو السعود، 7:3 Abu al Sa’ud, 3:7
  25. خصائص التراكيب، ص:91 Khaṣa’iṣ al Tarākīb, 91
  26. آل عمران: 9 Surah āl ‘Imrān :9
  27. آل عمران: 193 Surah āl ‘Imrān :193
  28. أبو السعود، 2:132 Abu al Sa’ud, 2:132
  29. النساء: 48 Surah al Nisā‘ :48
  30. أبو السعود، 2:187 Abu al Sa’ud, 2:187
  31. النساء: 58 Surah al Nisā’ :58
  32. أبو السعود، 2:192 Abu al Sa’ud, 2:192
  33. النمل: 55 Surah al Namal: 55
  34. أبو السعود، 6:292 Abu al Sa’ud, 6:292
  35. الأعراف: 81 Surah al A’rāf :81
  36. أبو السعود، 3:245 Abu al Sa’ud, 3:245
  37. طه: 12 Surah ṭaha :12
  38. أبو السعود، 6:7 Abu al Sa’ud, 6:7
  39. انظر الكشاف، 3:42 Al Kashāf, 3:42
  40. القصص: 30 Surah al Qiṣaṣ :30
  41. طه: 68 Surah ṭaha :68
  42. خصائص التراكيب، ص:98 Khaṣa’iṣ al Tarākīb, 98
  43. الكهف: 63 Surah al Kahaf: 63
  44. أبو السعود، 5:233 Abu al Sa’ud, 5:233
  45. أبو السعود، 5:233 Abu al Sa’ud, 5:233
  46. النجم: 4 Surah al Najam: 4
  47. أبو السعود، 8:155 Abu al Sa’ud, 8:155
  48. البقرة: 12 Surah al Baqarah: 12
  49. أبو السعود، 1:44 Abu al Sa’ud, 1:44
  50. البقرة: 11 Surah al Baqarah :11
  51. الزمر: 15 Surah al Zumar: 15
  52. أبو السعود، 7:247 Abu al Sa’ud, 7:247
  53. المجادلة: 19 Surah al Mujadalah: 19
  54. أبو السعود، 8:223 Abu al Sa’ud, 8:223
Loading...
Issue Details
Id Article Title Authors Vol Info Year
Id Article Title Authors Vol Info Year
Similar Articles
Loading...
Similar Article Headings
Loading...
Similar Books
Loading...
Similar Chapters
Loading...
Similar Thesis
Loading...

Similar News

Loading...